عن الفساد ..
ابراهيم الولي*
عن الفساد Corruption
مقدمة الفساد ظاهرة اجتماعية سلبية ، كل ما فيها ضرر وغبن على الإقتصاد والسياسة وعلى الشعوب بالدرجة الأساس. هي إن استقرت نخرت في كيان الدولة لتقوضها في نهاية المطاف، بما يلزم التصدي لها ومعالجة اسقاطاتها على حياة المواطن ومستقبله ورعاية عياله بكل الحزم والعزيمة التي لا تقبل المساومة او حتى الإستكانة لتهديدات عناصر الفساد القائمين عليه. تعريف كلمة الفساد في لغتنا العربية تعني الفعل فَسَدَ (وفَسُدَتْ، عَفِنَ او تفسخ وتعفن وانحل وتكيف وانحرف وضَّلَ ، من الضلالة ، او تدهورت أخلاقه وانحطت قيمه والإفساد يعني تخريب الأخلاق والآداب العامة، وأفسد بينهم أي أوقع بينهم، أي حَرَشَ بعضاً على بعض.وفي اليمن يقال ان القبيلة افسدت عندما تتمرد على الدولة . هكذا يرى فقهاء اللغة المعاني التي تشمل كل الرذائل وما هو سلبي من الأخلاق السوية في الفساد ، ولقد جاءت كلمة الفساد بمشتقاتها في القرآن الكريم 46 مرة. فمثلاً جاء في القرآن الكريم ، في سورة الحشر ما معناه، أن ما يوزع من موارد دولة الإسلام على الناس ( وهو الفيئ) يجب أن لا يقع دُولةً “ متداولاً” بين الأغنياء) وفي هذا اشارة واضحة لتحاشي الفساد في الدولة كي لا تذهب مواردها إلى جيوب طبقة المسؤولين والأغنياء ، بل لتقتصر على الفقراء وعامة الناس المحتاجين لها ، وبذلك تحريم إلهي للفساد...سبحان الله. مديات الفساد: عندما كنت حدثاً اعيش في ثلاثينيات القرن الماضي في ذي قار، وكانت تدعى حينئذ لواء المنتفك، كنا نسمع بكلمة الفساد ويقتصر معناها على الخروج على الآداب العامة جنسياً ، فإن قيل عن صبي أو رجل او امرأة انهم قد ارتكبوا خطيئة كهذه ، فكنا ننعتهم بالفاسد أو الفاسدة والعياذ بالله. وعندما نسمع حينئذ ، ان فلاناً قد رشا شرطيا بدرهم، اي بخمسين فلساً ليتجاوز الأخير عن ذنب اقترفه فلان ، فكنا نضحك على ذلك ونسخر من الشرطي ، حتى كنا نسميه ابو الواشر ، بسبب أن الدرهم القديم كان مدوراً ذو حافة مسننة ، فنحن اذن لم نعرف بعد ، ان الفساد يخرج عن هذا النطاق الضيق، ربما بسبب قلة موارد العراق المالية في حينه، وقلة عدد السكان وتواضع موارد حياتهم، وقد يكون العراقيون وقتئذٍ، على بساطة حياتهم أقرب تمسكاً بأحكام الدين الحنيف. ولما كبرت ودخلت دروب الحياة في بغداد وبعدها في القاهرة ، حيث كنت أدرس في الجامعة هناك في آخر الأربعينيات وبداية الخمسينات من القرن الماضي... عرفت من الممارسة اليومية في التعامل مع السلطات الحكومية أعني موظفيها ،أن عادة الرشوة أخذت طريقها إلى نفوس المرضى من هؤلاء الموظفين، على ندرتهم وان كانت الحكومات المتعاقبة تشدد على مكافحة الفساد بين الموظفين حيث تنتشر الرشوة ولم نكن تسمع عن فساد في رجال الدولة الكبار من السلطات الثلاث ،التشريعية والتنفيذية والقضائية. فأنا مثلاً وقد كنت باحثاً اجتماعياً في وزارة الشؤون الإجتماعية، استدعاني الوزير (حسن عبدالرحمن) ليأمرني باستلام إدارة سجن الأحداث ، أو المدرسة الإصلاحية، و قال لي ان مديرها الحالي شخص ، غير نزيه مع أوصاف أخرى لا سبيل لذكرها . وعندما استلمت هذه الإدارة عرفت، مع الأسف أن المدير كان متواطئاً مع متعهد ارزاق المؤسسة (يتجاوز عن أخطاء المتعهد بالسكوت عن نوعية وكمية المواد الغذائية لمائة وعشرين حَدثٍ في المدرسة) كما انه يستفيد منه بطرق أخرى أخجل من ذكرها. طبيعي أني صححت هذا الوضع الفاسد بما أغضب المتعهد وقد علمت في حينها أن الرجل كان متواطئاً مع موظفين كبار في الوزارة ممن يستفيدون من هذا الفساد، وفي أحد الأيام جاء رجل ريفي إلى بيتي، وكان اخي الاصغر عبدالكريم طالب في الثانوية الشرقية موجوداً في البيت، وإذا بالرجل الطيب يقود خروفاً ضخماً وفوقه ورقة نقدية من عشرة دنانير وهو يقول لأخي هذه هديه للمدير كي يراعي ولدي المسجون لديه ،عرفت فيما بعد أن من سبقني كان يقبل هذه الهدايا، ومن الطبيعي ان اخي نَهر هذا الرجل وقال له لو أن اخي عرف بهذا لعاقبك عليه فاذهب انت وهديتك راشداً ، وأنا سأخبر أخي بما تريد أن توصي به ولقد جرى ذلك فعلاً. هكذا بدأت أفهم الرشوة وهكذا بدأ السطو على ممتلكات الدولة ومالها. ولقد صادفت في حياتي أمثلة عديدة مع الأسف من سلوك موظفين صغار ومتوسطي المكانة في قبول الهدايا وكنا في وزارة الخارجية لا نقبل الهدايا من الأجانب بل وكنا نُعلِم الوزارة بوقائع كهذه ، رغم ان بعض ضعاف النفوس كانوا يرتضون ذلك حينئذٍ ، هكذا كانت حالة العراقيين ومسؤوليهم سواء في العهد الملكي او في اوجه النظام الجمهوري ، على تقلباتها.. حتى بزغ عام 2003 حين صدق جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكي تحت حكم الرئس بوش الاب القول ،وهو يفاوض طارق عزيز في جنيف 9/1/1991 ( بأننا سنعيدكم الى حالة ما قبل الثورة الصناعية ).. و بعد أن دخل العراق في سلسلة حروب مع جيرانه ، إضطُر عليها بسبب استفزازات وانتهاكات مختلفة لا مجال لمناقشتها هنا ، احتلت قوات الولايات المتحدة ، برغم مجلس الأمن، بلادنا فكان ما كان من تخريب للبلاد وتمزق نسيجها الاجتماعي، وشُرّعت فيه الطائفية والفئوية حتى لقد اقتتل الأخوة وضاعت القيم واصبح السطو على المال العام من ثروة نقدية او معدنية او عقارية ، أصبح مسألة مبررة مقبولة في نفوس بعض من تسيّد على النظام السياسي الجديد ، فصار الأبتزاز منهجا والرشوة أمراً لازماً لتمشية أمور الناس ، وصار نهب المال العام يُحصى بالمليارات وبأرقام لم تكن تعرف عدد أصفارها من قبل ، فالترليون مثلا وهو مابلغته ميزانية البلاد الآن، يكون في أمريكا وفرنسا مع 12صفراً إلى يمين الواحد ، أرقام كهذه أو حتى أقل منها أي بالبليون الذي هو ألف مليون في أمريكا وفرنسا ،أما في بريطانيا وألمانيا فهو مليون المليون ،ترينا هذه الارقام جسامة خسائر العراق بسبب الفساد . معذرة لهذا الاسترسال في الأرقام. إنما أردت أن أوضح للقارئ أن ما يسرق ، أو قد سُرق من ثروة العراق هو في نطاق هذه الأرقام، حتى لقد اشيع أن في العراق العديد من المواطينين الملياردرية , وقد يتسائل المرء عن السبب في انتشار الفقر في العراق وهو الغني المحسود على غناه، فأقول لكم أن الاقتصاد يقرر أن ثروة الأمم تحصى من خلال الناتج القومي الإجمالي للبلاد.. ولتبسيط الأمر لنتصور أن عدد سكان مدينة ما هو ألف نسمة، وأن ناتجها القومي مقداره ألف دينار، فان كان توزيع الثروة عادلاً، لاصاب كل فرد ديناراً واحدا. أما اذا ما استحوذ خمسة بالمئة منهم على 750 دينار فسيكون نصيب خمسة وتسعين بالمائة من الناس ديناران وستمائة وواحداً وثلاثين فلساً فقط ، أي أن الاغنياء سيحصلون ، زوراً على 150 دينار لكل فرد... بينما يظل الآخرون على دينارين وستمائة فلس فقط. تلك هي معادلة توزيع الثروة القومية لأي بلد، وليس العراق ببعيد عن تطبيقاتها ،فثروة الأمم كما رآها الفيلسوف الاسكتلندي آدم سمث، هي شبيه لما اسلفت لتبسيط الأمور. فأما الذين استحوذوا في بلادي على القسط الأعظم من الثروة ، بهتاناً فهم سعداء بكسب غير مشروع حققوه من اكتناز المال لاستغلاله في حياة مرفهة لهم ولعوائلهم، وغالبا ما تكون تلك الثروات المسروقة تستمثر خارج البلاد في مختلف أرجاء العالم ، وذلك أمر مكشوف ،خاصة لمن يتحكم بمسار الدولار أينما أكتنز أو صُرف .. أما اولئك المستغلون ، فقد لجأوا لاستنباط أعذاٍر وتبريرات يفرضونها على هواهم ،ولا عبرة بالفريق الفقير المتضرر من هذا التنمر، وكأني بأولئك ، هم من وصفتهم الفيلسوفة الألمانية (أرنت) بالمسترخصين للأثم … عندما سئِل الفيلسوف الارلندي برنارد شو 1856 عن تقييمه لحالة الاقتصاد العالمي ، وهو الاصلع و كثّ شعر اللحية ،قال ( ان لحيتي كثيفة و رأسي اصلع كالاقتصاد العالمي ،غزارة في الانتاج و سوء في التوزيع )ا وفي ذلك بعض صدقية لحالة اقتصادنا ، وباقتصادات دول اخرى دون شك .. لقد كان نهب المال العام يُّسوغ له ، خطأً بكونه ثروة مستباحة ليست بملك أحد،كما النفط و المعادن ، وهكذا اختفت المليارات من ميزانيات الدولة . ولا أحد يجرؤ على تشخيص مرتكبي تلك الآثام ،ذلك لأن جميع المسؤلين في بلادي ينادون جهارا بضرورة مكافحة الفساد! والفساد في بلادي .وربما في العديد من الدول الأخرى لا يقتصر على السطو على المال العام للدولة بل تعداه إلى أوجه أخرى من حياتنا ، فِبدعة المحاصصة في الحكم ، انما هي مفسدة لنظم الحكم التي تدّعي الديمقراطية...والتمييز بين المواطنين في منح امتيازات مختلفة، هو محض فساد في الإدارة ،والتدخل في الانتخابات العامة سلباً لأجل ضمان اصوات مرشحين غير مؤهلين للسلطة التشريعية ،هو فساد واعتداء على العدالة في نظام الحكم، واخيرا وليس آخراً فإن التمترس وراء الأحزاب التي ملكت المال والسلاح في خرق فاضح للديمقراطية هو استخفاف بعقول الناس واسهام متعمد في تجهيلهم لأجل مصالح الاحزاب ذاتها، ولعل الادهى من كل ذلك ، تظل مسالة عدم التمسك بروح المواطنة التي تعني حصرا التصاق الإنسان بوطنه أرضا وشعبا بتاريخه التليد وشعبه المجيد بصرف النظر عن معتقدات الناس ، فالجميع في الواقع يعبدون الله وحده ،الا فليحترم أحدنا الآخر فالتفرقة بين الناس واستعداء فئة من المواطنين على أخرى انما هي فساد بإمتياز. و تطول قائمة اوجه الفساد فلا مجال لحصرها في هذه المقالة المركزة . مرجعيات دولية لمكافحة الفساد: تهتم جميع الدول بإصدار قوانين وتشريعات لمكافحة الفساد، فالرأي العام العالمي يدرك خطورة تفشي هذه الظاهرة التي تسبب فشل الدولة في معادلة واضحة مفادها أن فشل الدولة يتناسب طردياً مع تفشي الفساد ،على أن المجتمع الدولي أفرز جهات معينة اهتمت بأكثر من غيرها في مسئلة مكافحة الفساد وهي:
1 الشفافية الدولية Transparency International 2 اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد UN Convention against corruption
قاما الأولى، اعني الشفافية الدولية فهي منظمة غير حكومية انشأت في 1993 ومقرها في برلين ألمانيا وهي منظمة طوعية هدفها مكافحة الفساد ومنع الجريمة على مستوى العالم. تركز على الشفافية في الحكم لانها ترى فيها الخطوة الاولى في طريق مكافحة الفساد. والفساد في تعريف المنظمة هو اساءة استخدام السلطة لأجل تحقيق مكاسب خاصة بما يسبب الضرر لكل من يفترض او يعتقد أن العاملين في الحقل العام هم يعملون بنزاهة أصلا. فالفساد يذهب بالثقة بين الحاكم والمحكوم ويضعف الديموقراطية ويُعثر التنمية ويزيد من عدم المساواة والفقر والانقسام الاجتماعي ويؤثر سلبا حتى على ازمة المناخ في العالم. والمنظمة تصدر دليلاً سنوياً حول الفساد في مختلف الدول CP I Corruption perception index ولا يفوتني ذكر تصنيف المنظمة للفساد على نوعين: الأول: الفساد الظرفي situative Corruption الذي يعني الفساد البسيط والعرضي كالرشوة لتسريع معاملات المواطنين الحياتية. أما الثاني: فهو الهيكلي: Structural Corruption وهو المقصود بالإختلاس الواسع في نهب المال العام ،والتدخل السلبي في تعاقدات الدولة مع الغير، صناعة وزراعة ومعادن ونفط كما يغطي شراء الذمم في تعينات كوادر الدولة في الوزارات أو مجالس النواب فضلا عن الكوادر العليا في الدولة سواء جرى ذلك بالمزايدة أو بالتحزب والمحسوبية، حيث يختار الفاسد بدل الكفؤ النزيه في مفاصل الدولة .
اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد.
أصدرت الحمعية العامة للأمم المتحدة في 2003 هذه الاتفاقية وقد انضمت إليها معظم دول العالم بما فيها العراق بالطبع، اشتملت هذه الاتفاقية على 8 فصول 71 مادة تبين كل مادة توصيف لعناصر الفساد كما أن بعضها يتحدث عن استرداد الأموال المهربة في الفصل الخامس. وفي الفصل الثاني تلزم موظفي القطاع العام الالتزام بمدونات السلوك ومتطلبات الإفصاح المالية ومن الاسترداد يعتبر المبدأ الأساسي للإتفاقية. وفي الفصل الثالث تنص على: أن الإفعال المحددة التي يجب على الدول الأطراف تجريمها تشمل الرشوة النشطة واختلاس الأموال العامة، وعرقلة سير العدالة وغسيل الأموال، ويجب التغلب على العقبات الناشئة عن تطبيق قوانين السرية المصرفية وعن الشفافية في التعامل، ان على الموظفين العاملين والإداريين ومدراء الشركات والمؤسسات التصرف بوضوحVisibility وبالتنبوءPrediction والمفهوم understandable من أجل رفع مستوى المشاركة والمسائلة بالسماح لطرف ثالث أن يفهم بسهولة عما يجري من الاعمال موضوع التداول وبهذا تكون الاتفاقية الأممية قد أكدت بصورة خاصة على الشفافية في التعامل فهي الطريق إلى مكافحة الفساد. لا يفوتني أن اذكر أن الجمعية العامة حددت يوم 9 ديسمبر للاحتفال به يوما عالميا لمكافحة الفساد. وكدليل إضافي على اهتمام العالم بمكافحة الفساد فقد انشات في لوكسمبورج والنمسا اكاديمية للدراسات العليا لهذا الغرض ،وهي International anti-corruption academy كما أن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD ربطت أعضاءها باتفاقية مكافحة الرشوة هدفها خلق تكافؤ الفرص في الاعمال التجارية والدولية.OECD anti-bribery convention خاتمة حاولت في هذه المقالة توصيف الفساد كمفهوم وظاهرة اجتماعية أراها نخرت في كيان بلدي العراق، الذي احبه وارجو له الخير والصلاح ، وان يستيقظ ضمير من اسرفوا بالفساد بكل وجوهه ،مالياً وسياسياً واجتماعياً، لعلهم يكفوا عن التلاعب باللفظ والقيمة حين يجهرون بمكافحة الفساد قبل ان يسنبطنوا ما بأنفسهم، فالله سبحانه وتعالى قد يمهل ولا يهمل . والله من وراء القصد.
*سفير عراقي سابق