حرب البسوس في العلاقات الجزائرية المغربية
منذ 8 دقائق
يأخذنا كل خلاف عربي – عربي إلى أجواء حرب البسوس حتى نُمسي وكأننا نشهد فصلا من فصولها، فنسمع صدى صوت جساس يتردد في وسائل إعلام هذه الدولة، مُعددا مثالب الطرف الآخر، وصورة كُليب على شاشات الفضائيات في الدولة الأخرى رادا عليه بالمثل.
ويكاد لا يتوقف هذا الهم العربي لا بفعل شعبي ولا بفعل حكومي، والمستمر نزيفه على مرّ عقود من الزمن، على الرغم من أن العالم قد تغير وتغيرت معه منظومة العلاقات الدولية، وطبيعة الخطاب السياسي. فقد دفع الاقتصاد بالمشاكل السياسية جانبا، وخفف من لهجتها حفاظا على عجلة التنمية. وبات صانع القرار في الدول المتحضرة يتجاوز الهفوات والأخطاء السياسية، والمهاترات الإعلامية، كي لا تتهاوى العلاقات الاقتصادية بينه وبين الدول الأخرى المجاورة وغير المجاورة. ولعل تركيا خير مثال على هذا السلوك في منطقة الشرق الأوسط، فقد اتخذت من هذا السلوك السياسي وسيلة للحفاظ على مصالحها الاقتصادية مع روسيا، بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية، كما تراجعت في ساحات أخرى كي لا يدفع الاقتصاد أثمان الأخطاء السياسية. وعلى الرغم من التنافس الجيوسياسي الكبير والصراع التاريخي المستديم بينها وبين إيران، إلا أنها لم تفسح المجال للسياسة يوما أن تضر بمصالحها التجارية مع طهران.
وما يقال عن تركيا يقال أيضا عن دول كثيرة ضمن منظومة الاتحاد الأوروبي وخارجها، التي يزخر تاريخها بالحروب والدماء والصراعات المريرة، لكنها دفعت بالعلاقات الاقتصادية، كي تكون هي الرافعة الأهم لكل العلاقات الأخرى.
أما نحن العرب فما زلنا نتمسك بالسياسة، ونجعلها قدس الأقداس في العلاقات البينية بيننا، فإن سارت على مزاج الحاكم سارت معها العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، وبات العبور على الحدود والأجواء سهلا يسيرا، وإن ساءت قُطعت كل حبال الوصل، وجُيشت وسائل الإعلام والقنوات الدبلوماسية، وانطلقت الحروب السبرانية بلا هوادة، فكم من مشاريع وحدوية وُئدت لأن خلافا سياسيا دبّ بين هذه الدولة العربية وتلك، وكم من اتفاقيات ومشاريع اقتصادية تكاملية بين ليلة وضحاها هوت، لأن العلاقة الشخصية بين هذا الزعيم وذاك قد ساءت، بل يشهد التاريخ على أن بعض الدول العربية حشّدت علاقاتها الدولية في قضايا خلافية عربية، ولو بحثنا في أسباب هذا الواقع المرير لوجدنا أن هنالك خللاً كبيراً في مستوى عمل منظومة الأمن القومي العربي، فدولنا ما زالت غير قادرة على أن تحدد هل هي هدف لتأثير خارجي؟ أم أنها دول قادرة على تحقيق مصيرها كل منها على حده؟ كما أن هنالك خللاً آخر بنيويا وعميقا، يتمثل في عدم إدراك المصالح العربية. وهذا يبدو واضحا في التناقضات الموجودة حتى في الدول التي يضمها مناخ إقليمي واحد ونسيج اجتماعي متشابه، كما هو الحال في دول الخليج العربية، ودول المغرب العربي والمشرق العربي كذلك، وبذلك باتت الدول العربية تفهم ما يجب عليها فعله بشكل مجزأ وليس موحداً، فتقدمت مصالح الجزء على الكل، ما قادها إلى صنع معارضات ضد بعضها البعض الآخر، ودعم حركات انفصالية داخلية، لكن المفارقة الكبرى في هذا المشهد المأساوي هو أن الخلافات العربية مع الدول من خارج المنظومة العربية لا تستغرق وقتا طويلا، وغالبا ما يكون سقف الخلاف منخفظا وملتزما بحدود اللياقة السياسية، المتحزمة بالاخلاق، فيبادر الحاكم إلى استغلال أول مناسبة تمر على ذلك البلد، لبعث رسائل التهنئة والمشاركة في الاحتفالات المقامة.
- اقتباس :
- نحتاج لمنظومة فعالة تضم صُنّاع القرار، وتستند لوثيقة عمل لتفادي أي تطور خطير للأزمات بين الدول العربية، وللمساهمة في حلها
نعم، إن الكلمات تخلق صراعات وتشعل حروبا، حتى قال القائد هنبعل عنها إن (الكلمات هي شيء حي لها شخصية كما لها أجندة)، لكن يفترض أن لا يكون لها وزن كبير في العلاقات العربية ـ العربية، إلى الحد الذي يقود إلى قطع العلاقات وشن حملات إعلامية وتسميم الأجواء، وإذا كان ما قاله داهية العرب معاوية بن أبي سفيان (ما من شيء ألذ عندي من غيظ أتجرعه)، لا يمكن أن ينطبق على الحالة السياسية السائدة اليوم بين الدول العربية، فما بيننا كعرب من صلات أخوة ودم وتاريخ ودين ومصير واحد، لا بد من أن تكون شفيعا في أوقات الأزمات. صحيح أن عمق الخلافات بين المغرب والجزائر تكاد تكون أثقل الخلافات العربية حتى اليوم، وأن أجواء الشك والريبة والاتهامات المتبادلة قد امتدت على فترة عقود من الزمن، لكن الجزائريون والمغاربة، كان مصيرهم واحدا أثناء القتال ضد المستعمر الفرنسي في القرن المنصرم، كان كل طرف منهما يعطي في قتاله ضد المستعمر فرصة لتقريب النصر للطرف الآخر وهزيمة المحتل. وفي خضم تلك الفترة التي كانت فرنسا تعتبر الجزائر جزءا من أراضيها، وتفرض الحماية على المغرب، كان المحتل يشكل بؤرة للصراع بين البلدين، من خلال التلاعب بخط الحدود بينهما وفقا لمصالحه، فتارة يقطع بعض المناطق من خريطة هذا البلد ليضيفها لخريطة البلد الآخر، وتارة أخرى يفعل العكس، ومع بزوغ الاستقلال انفجرت المشاكل الحدودية بينهما، ورافق ذلك حالة من انعدام الثقة تدحرجت سنة بعد أخرى، وتكورت حتى كبرت وجعلت الشعور السائد بين الطرفين أن كل ما يحدث لدى هذا الطرف إنما سببه الطرف الآخر.
ومع ذلك فالتطور الأخير، الذي تمثل في قطع العلاقات بين البلدين، لا يبدو أنه يأتي بجديد، ولا يحوي تهديدا حقيقيا يمس أمن وسلامة وسيادة البلدين. فالقنصليات ما زالت تعمل في كلا الجانبين، ولم يمس رعايا البلدين أي سوء، حتى الملفات الخلافية التي تحدّث بها كل طرف متهما الآخر برعايتها، لا يوجد فيها شيء مضاف، فهي مواضيع أصبحت أزلية في العلاقات بين الجزائر والرباط، لذلك لا تشي الأمور بأنها ذاهبة إلى التصعيد مستقبلا، لكن موطن الخوف الحقيقي هو أن هذه الأجواء السلبية بين البلدين، تربت عليها أجيال عديدة، وباتت للأسف الشديد عنصرا من عناصر ثقافة البعض.
إن ما تحتاج اليه الدول العربية ومنها الجزائر والمغرب، هو قيام منظومة فعالة تضم جميع صُنّاع القرار، وتستند إلى وثيقة عمل من مبادئ وقواعد وآليات، لتفادي أي تطور خطير للأزمات بين الدول العربية، والمساهمة في حلها. ويجب أن يكون تفادي النزاع هو في أساسيات هذه المنظومة وليس لاحقا. كما يتطلب تشكيل بعثات تقصي الحقائق تحظى بالثقة، وبعيدة عن أي تقاطع في المصالح العربية ومستقلة عن المحاور، وبذلك يمكن الوقاية من الحرائق وأطفاؤها في بدايتها، وذلك أفضل كثيرا من إطفائها بعد اندلاعها بفترة.
*كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية