هُناكَ ما فوقَ ’’حلِّ الصراعِ‘‘ و’’الوَساطَة‘‘
د. زكي الجابر
هُناكَ ما فوقَ ’’حلِّ الصراعِ‘‘ و’’الوَساطَة‘‘
إعداد وتعليق د. حياة جاسم محمد
’’حَلُّ الصِراعِ‘‘ له نظريَّتُه، ولهذه النظريّةِ دِعامَتُها السَيكولوجيَّةُ، ولها دُعاتُها من الباحِثينَ والدارِسينَ في عِلمِ السياسةِ مِمَّنْ يَعتَكِفونَ في أقسامِ الجامعاتِ وقاعاتِ الدَرسِ والمُحاضَرة. قد لا يتيسَّرُ لي وُلوجُ مُنعَرَجاتِ تفاصيلِها، ولكنَّ وَجيزَها المُفِيدَ يقولُ بأنَّ الانسجامَ والتَماثُلَ أمْيَلُ إلى طَبيعةِ البشرِ من الصِراعِ والنِزاعِ، وأنَّ عُنصُرَ الخَيرِ لا الشرِّ هو المُرتَكَزُ والقاعِدة. وإذا كانَ مُمكِناً جَلْبُ طَرَفَيِ الصِراعِ لُيِحاوِرَ بعضُهم بعضاً فإنَّ هناكَ احتِمالاً قويّاً بِتَلاشِي فُقدانِ الثِقة، وقد يتصاعَدُ الفَهْمُ المُشتَرَكُ إلى الدرجةِ التي يُنَحَّى فيها الصِراعُ والنِزاعُ جانباً. وثَمَّةَ مَنْ يُشكِّكُ في نَجاعَةِ هذه المُقارَبَةِ بَلْ يَصِفُها بأنّها غَيرُ عَمَليّة، ولا مجالَ لها إلّا حَيثُ يَخصبُ التنظيرُ والتأمُّلُ لا المُمارَسَة الفِعليّة. ومَنْ يَذهبُ إلى التَشكيكِ يُعزِّزُه بالقَولِ بأنَّ الصِراعَ لم يَقُمْ ويأخُذْ حِصَّتَه دماً وجِراحاً وبُغضَاً وكراهيةً ولَعَناتٍ وشَتائِمَ إلّا لِوُجودِ مصالحَ مُتضاربّةٍ، ولَنْ يُفلِحَ الحِوارُ في تَغييرِ أو إعادةِ تَشكيلِ المَواقِفِ السَيكولوجيَّةِ التي تُغذِّيها تلكَ المَصالِحُ المُمتَدَّةُ بِجُذورِها تأريخاً، والمتفرِّعةُ بأغصانِها اقتصاداً وسياسةً وثقافةً. ومَنْ يَذهبُ إلى التشكيكِ يعزِّزُهُ أيضاً بأمثلةٍ تُبرهِنُ على تَحَطُّمِ ’’حَلِّ الصِراعِ‘‘ على صَخرةِ الواقعِ في قُبرص بَينَ القَبارِصةِ اليونانيّينَ والأتراكِ، وإيرلندا الشماليّةِ بينَ الكاثوليكِ والبروتستانت، وكوريا بين الشُيوعيّينَ ومُضادِّي الشيوعيّةِ، وفِلسطينَ بين شَعب ِفِلسطينَ والصَهايِنة.
إنَّ الذين يقُولونَ بذاكَ يَرَوْنَ أيضاً أنَّ الوَساطةَ أجدَى وأقربُ إلى النَجاحِ بِحُكْمِ قُربِها من الواقعيّة، فـ’’الوَساطَةُ‘‘ تُرَكِّزُ على الجَوهرِ، المَصالِحِ المُتَضارِبَةِ، مِن خِلالِ طَرحِ تَسويةٍ تَلقَى قَبولاً واقتِناعاً لدَى طَرَفَيِ الصِراع. وإذا ما كانَ نَهجُ ’’حَلِّ الصِراعِ‘‘ يَجعلُ ’’التَسْوِيَةَ‘‘ و’’الحلَّ الوَسَطَ‘‘ الهَدفَ المركزيَّ فإنَّ الهَدَفَ المركزِيَّ لِنَهجِ ’’الوَساطَةِ‘‘ هو تَوَفُّرُ ’’الفَهمِ الأحسَنِ‘‘ و’’الثِقَةِ العالِيَة‘‘.
رُبَّما يَتكامَلُ النَهْجانِ أو رُبَّما لهما معنىً واحدٌ علَى نَحوِ ما رَأينا ونَرَى من مُحاولاتٍ لإقرارِ السلامِ على الأرضِ العربيّةِ المُقدَّسة. أمّا الذي عِندي فَهْوَ أنَّ التصوُّراتِ القائِمَةَ في الذِهنِ الصهيونيِّ عن الشخصيّةِ العربيّةِ تُشَكِّلُ أساساً لِمُنطَلَقاتِ ذلكَ الذِهنِ في الحَديثِ معَ الوُسَطاءِ أو التَحاوُرِ مع الطَرفِ العربيِّ، ولها أثرُها في إحباطِ كلِّ ما يستهدِفُه ُالنَهْجانِ سويّةً أو علَى انفِراد. ولكي تَكونَ مَقُولَتي هذهِ ذاتَ مِصداقيّةٍ أعودُ إلى ما سَطَّرَهُ ’’بنجامين بيت-هالاهمي‘‘ Benjamin Beit-Hallahmi(1) عن ’’الشَخصيّةِ العربيّةِ‘‘ من خِلالِ مُرَاجَعَتِه لِبَعضِ التصوُّراتِ النَفسيّةِ والحَضاريّةِ المُؤثِّرة في الصراعِ العربيِّ الإسرائيلي.
يَذهبُ أوَّلُ هذه التصوُّراتِ إلى ’’تَصَلُّبِ‘‘ المَوقِفِ العربيِّ تجاهَ الجانبِ الإسرائيليِّ، وأنَّ هذا التصلُّبَ، كما تقولُ الأدبيّاتُ التي استنَدَ إليها بيت-هالاهمي، يَرجِعُ في جُذورِه إلى الحضارةِ العربيّةِ ولُغَتِها وأفكارِها التي يُعوِزُها أن تأخُذَ بِعَينِ الاعتبارِ الطَرَفَ الآخر. ويرتبطُ هذا التَصوُّرُ بالتَصوُّرِ الثاني الذي يذهبُ إلى أنَّ العَربَ يُبالِغونَ في ’’كَرَمِ الضِيافةِ‘‘ و’’التأدُّبِ‘‘، هاتَيْن الصفتَيْنِ اللتَيْنِ تَرجِعان في جَوهَرِهِما إلى ما يسكُنُ في النَفسِ العربيّةِ من حِقدٍ دَفينٍ وعَداءٍ لَنْ يَلِين.
الحَضارةُ العربيّةُ في التَصَوُّرِ الثالثِ حَضَارة ’’تسلُّطٍ وتَكًبُّرٍ‘‘، والشَخصُ العَرَبيُّ المتسلِّطُ المتكّبِرُ في صِحّةٍ نفسيّةٍ بِسبَبِ انسجامِ مُمارساتِه الحياتيةِ مع خَصائِصِ النَمطِ السائِدِ لحَضارَتهِ.
وفي التصوُّرِ الرابعِ فإنّ العربيَّ غارقٌ في ’’الخَيالِ‘‘، عاجِزٌ عن استيعابِ ما في الحياةِ من حقائقَ، وترتَبطُ هذه الخَصِيصةُ بالتَقاليدِ الموروثةِ والعاداتِ التي تآلفتْ وتَعايَشتْ سابحةً مع الخيالاتِ والابتعادِ عن واقعِ الأرضِ.
إنَّ العَجْزَ عن استيعابِ الحقائقِ القائمةِ يَنتهي إلى التصوُّرِ الخامِسِ الذي يَرى لَدَى العربيِّ مَيْلاً إلى ’’الفَهْلَوَةِ‘‘، وذلكَ باتّباعِ أقَصر الطُرُقِ إلى تَحقيقِ النَجاحِ، القفزُ بِخِداعٍ وتَحايُلٍ فوقَ المشاكِلِ والأخطاء. وما عانَتْهُ القوّاتُ العربيَّةُ من هزائمَ على أيدي القوّاتِ الإسرائيليةِ قد يكونُ مردودُه هذا التلبُّسُ بحالةِ ’’الفَهْلَوَةِ‘‘ وما فيها من قِصَرِ نَظَرٍ وادّعاءٍ وجَهلٍ يكاُد يَقتربُ من التَغابِي عن الواقعِ والتغافُلِ عن مَرارةِ الأحداث.
ويذهبُ التَصَوُّرُ السادسُ إلى اتّصافِ العَرَبِ بانعدامِ المِصْداقِيَّةِ والمَيلِ إلى تَشويشِ الحقائقِ من خِلالِ الاحتكارِ والتلاعُبِ والمُغالَطاتِ والزَخرَفةِ اللَفْظيّة.
ويذهب التَصَوُّرُ السابعُ إلى أنَّ اللغةَ العربيّةَ هي قَناةُ التَشويشِ والتلاعُبِ استناداً إلى كونِها لُغةَ تأثيرٍ ووَصفٍ، وأنّها لَن تَصلُحَ لأغراضِ الدِقَّةِ أو الموضوعيّةِ. وبِصِفاتِها هذه فإنّها تُؤثِّرُ على طريقةِ التفكيرِ العربيِّ ومِزاجِه وكيفيَّةِ تَواصُلِه، وفي نِطاقِ هذا التصوُّرِ فإنّ اللغةَ العربيَّةَ متفرِّدَةٌ في الضَبابيّةِ والغُموضِ وتأكيدِ العبارةِ على حِسابِ المَعنَى وتضخيمِ الاستِجاباتِ النفسيّة والمُبالغةِ والإسرافِ في العِبارات. وهذه الخصوصيّةُ لها جذُورها في المَوروثِ من أنماطِ الأدبِ والمألوفِ من أساليبِ التَنشِئَةِ الاجتماعيّةِ، كما لها امتداداتُها في المُمارَسَةِ السياسيّةِ والتَشكيلِ الأساسيِّ لِمُقَوِّماتِ القوميّةِ العربيّة.
وبالرَغمِ مِمّا تعرّضَتْ له هذه التصوُّرات من نَقدٍ انطلاقاً من افتقارِها إلى مَنهَجِ البَحثِ العِلميِّ في الدراسةِ والتدقيقِ فإنّ الأدلَّةَ المتوفِّرَةَ تُشيرُ بوضوحٍ إلى أنَّ هذه التصوُّراتِ ما زالتْ قائمةً في الفِكرِ الصهيونيِّ وفي أنماطِ الفكرِ الغربيِّ الذي يتقبل هذه التصوراتِ على أساس أنها حقائقُ مُسَلَّمٌ بها.
تُرى كيف يُمكنُ أن يتحقَّقَ نجاحٌ لجُهودِ ’’حلِّ الصراعِ‘‘ و’’الوَساطةِ‘‘ ما دامتْ هذه التصوُّراتُ تحتلُّ مكانةً في الذهنِ الصهيونيِّ وما دامتْ تُغَذَّى باستمرارٍ عن طريقِ الأفلامِ والمُسلسَلاتِ والأقاصيصِ؟ كيف يُمكنُ لتلكَ الجُهودِ أن تَنجَحَ وهُناك دَعمٌ لتصوُّراتٍ تُشِيعُ الشكَّ في الطَرفِ العربيِّ، وأنه يحمِلُ في أعماقِه نيَّةً مُبَيَّتَةً للقَضاءِ على اليَهودِ مِمّا يَقتضِي التأكيدَ على الشخصيَّةِ اليهوديّةِ وتثبيتَ الرُموزِ الصهيونيّةِ واستعادةَ كلِّ ما يُمكِنُ استعادتُه، وبِكُلِّ الوسائلِ، من أرضِ اللَبَن والعَسَل؟
إن ’’اللِيكُود‘‘ هو المِثالُ المُجَسِّدُ لتلكَ التصوُّراتِ في كلِّ مواقِفِه ومُنطَلَقاتِه وأساليبِ تَعامُلِه السياسيّةِ والعسكريّة، وما دامَ في السُلطَةِ فإنّ احتمالاتِ النَجاحِ في الجُهودِ المَبذولَةِ عن طريقِ ’’الوَساطَةِ‘‘ أو سُلوكِ نَهجِ ’’حلِّ الصراعِ‘‘ تبدو ضئيلةً بالرغمِ مِمّا يَنتهي إليه ذلك من عَواقِبَ تجعلُ الكِيانَ الإسرائيليَّ في حالةٍ من الهَلَعِ لا تستطيعُ الحيلولَةَ دونَهُ القوّةُ العسكريَّةُ والمَمّراتُ الآمِنَةُ وحَواجِزُ المُرورِ وآلِيّاتُ الحِصارِ والأسلاكِ الشائِكة. إنّ إسرائيلَ ليستِ الواحةَ الآمنةَ ولَنْ تكونَ ما دامتْ تَنظُر إلى الجانبِ العربيِّ من خِلالِ تصوُّراتٍ مهزوزةٍ لا تستَنِدُ إلى نظرةٍ علميّةٍ ثابتة.
***********************
1- ’’بنجامين بيت-هالاهمي‘‘ Benjamin Beit-Hallahmi (PhD) ولد في تل أبيب 1943، إسرائيلي تخصّصه علم النفس، الدين، الحركات الدينية الجديدة، يعمل في جامعة حيفا. حصل على الدكتوراه من جامعة Michigan State في الولايات المتحدة. له العديد من الكتب والبحوث.
نشرت في صحيفة ’’البيان‘‘ (الإمارات)، 7-4-1998.