حقوق الإنسان وذلك العزف النشاز(١)
د. زكي الجابر
حقوق الإنسان وذلك العزف النشاز(١)
أوبرا حقوق الإنسان نسيج رائع من جودة الصياغة وإيقاع الكلمات وعذوبة الألحان، عزفتها على الملأ أول مرة، وبإتقان، الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب قرارها 217 ألف (د - 3) في 10 كانون الأول/ديسمبر 1948، وأطلقت عليها ’’الإعلان العالمي لحقوق الإنسان‘‘. وفي ديباجته وصفت الجمعية إعلانها هذا بأنه المثل الأعلى المشترك الذي ينطلق من الإقرار بما لجميع البشر من كرامة أصيلة ومن حقوق متساوية ومن اعتبار هذا الإقرار أساس الحرية والسلام في العالم.
وعبر ثلاثين نغمة (مادة) تَجَسَدَ في متن الإعلان جلّ ما تمناه ويتمناه البشر من بزوغ عالم يتمتعون فيه بحرية القول والعقيدة، وبالتحرر من الخوف والفاقة، كأسمى ما ترنو إليه نفوسهم.
المادة (1) تقول: ’’يولد جميع الناس أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء‘‘. وتنص المادة (19) على أن ’’لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود‘‘. أما المادة (30)، مسك الختام، فتذهب إلى أن ’’ليس في هذا الإعلان أي نص يجوز تأويله على نحو يفيد انطواءه على تخويل أية دولة أو جماعة أو أي فرد أي حق في القيام بأي نشاط أو بأي فعل يهدف إلى هدم أي من الحقوق ومن الحريات المنصوص عليها فيه‘‘.
وعند نهايات كل عام تقف شعوب العالم ناظرة بتطلع إلى ما تحقق من إنجازات في المجالات التي أوردها الميثاق، وما توالى بعده من عهود تناولت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1966) والحقوق المدنية والسياسية (1966)، وما أعقب ذلك من بيانات ومواثيق اشتملت على حق تقرير المصير، ومنع التمييز العنصري، وتحريم الإبادة الجماعية والجرائم التي ترتكب ضد الإنسانية، وإبطال الرق والتجارة بالرقيق، وتحريم السخرة واستغلال دعارة الآخرين، وحماية الأشخاص في الحبوس والسجون، وحرية الإعلام والحرية النقابية، وحقوق المرأة وحقوق الطفل وشؤون الزواج والأسرة، وقضايا الشباب ومهمات الإنماء الاجتماعي والحق في الثقافة. تضاف إلى ذلك بيانات وإعلانات ومواثيق مماثلة في المعاني والصياغات والأغراض على الأصعدة الإقليمية والوطنية. لن يخالجك، كما لم يخالجني، ريب في أن كل ذلك جميل، وجميل أن يحتفل الإنسان في نهايات كل عام بإعلان حقوق الإنسان، وأظن أن ما يشغلني ويشغلك، في كل هذا الأمر، هو ذلك العزف (الأداء) لألحان تلك الأوبرا وكلماتها.
وهنا أقف معقبا، كما وقف قبلي معقبون، عند نوعين من الأداء (المقاربة) لحقوق الإنسان، كانا موطن الانتباه والدرس لدى المعنيين بالشأن الدولي عقب مرونة في الموقف الأمريكي الأوروبي، وبالأخص إثر فشل البيان الذي تبنته الدانمرك، وأرادت به أن تدين الأمم المتحدة الصين لانتهاكها تلك الحقوق. وتجاوبا مع ما ذهب إليه (الكسندر فاتيكه) من معهد السياسة والاقتصاد الدوليين في بلغراد فإن أولى المقاربتين تنطلق من خلال الرؤية ’’البراغماتية‘‘ العملية الذرائعية، أما الثانية فتجعل من ’’المبادئ‘‘ المنطلق والرؤية.
وإذا ما واصلنا الحديث في إطار إشكالية تتخذ من الصين مثالا فلا بد من الإشارة إلى أن ما واجهه المقترح الدانمركي من ضعف يكمن أساسا في انسحاب الأحلاف الاستراتيجيين من جبهة التصلب ضد مجمل المواقف الصينية. إن جبهة الأحلاف هذه تشمل، كما هو معروف، أستراليا وكندا واليابان. هناك من يرى الصين تنتهك حقوق الإنسان في مجالين: أولهما سياسة الطفل الواحد التي لا تسمح للأسرة إلا بطفل واحد، وإقرار العقوبات التي تصل إلى تعقيم المرأة إذا ما أنجبت أكثر من واحد. أما ثانيهما فتنفيذ عقوبة الإعدام على نطاق واسع. أما المراقبون فيرون أن هناك دولا تدين الصين في هذين المجالين، وفي غيرهما، ولكن في الوقت ذاته لا تتمتع هذه الدول بسجل جيد في معاملة أطفال المهاجرين غير الشرعيين، واللاجئين عبر طريق غير قانوني، وفي الاستمرار في تنفيذ عقوبة الإعدام. ومن هنا فمن الناحية ’’البراغماتية‘‘ يبدو أمرا مبررا غض الطرف عما جرى في الصين في ساحة (تيان من)، حيث سحق جيش الشعب الصيني الطلبة المحتجين. وفي السياق نفسه يُغضُ الطرف عما أقدمت عليه القيادة الروسية من ضرب بالمدفعية لمبنى البرلمان، وما يجري من تدمير مروع لشعب الشيشان وأرضه وهويته.
إن عملية غض الطرف هذه تقوم في ضوء ما تمليه المصالح المتبادلة من اقتصادية وسياسية، ’’وحك ظهري أحك ظهرك‘‘. لقد قال جون هوارد، رئيس وزراء أستراليا، قبل مغادرته لزيارة الصين (1997) إنه لن يحاضر الصينيين عن حقوق الإنسان، ذلك أن الذي يعطي الثمار ناضجة إنما هو الحوار على أسس ثنائية بعيدا عن الهجوم الكلامي العنيف والاتهام القاسي. أما المقاربة الثانية التي تنطلق من المبادئ فإنها تحاول أن تربط الموضوع بــ ’’المشروعية‘‘، فمن لا يتمسك بحقوق الإنسان ينسف أساس مشروعيته في انتقاد الآخرين لانتهاك تلك الحقوق، كما أنه ينسف مشروعيته حين يركز الهجوم على دولة أو دول ويتغافل عما يجري في دولة أو دول أخرى من خروقات وانتهاكات.
إن أسوأ عزف لأوبرا حقوق الإنسان يتجاوز حدود الوصف بالنشاز هو ذلك الذي يرى إسرائيل، إسرائيل باراك ونتنياهو، واحة للديمقراطية في الشرق الأوسط، تحترم فيها حقوق الإنسان، وترفرف فيها الحرية، فلا تكسير للأيدي، ولا قتل للأطفال، ولا إهانة للشيوخ والعجائز، ولا نزع التزامات بالقسر، ولا سجون ولا معتقلات، ولا تفرقة بين عربي وصهيوني.
أوبرا حقوق الإنسان جميلة صياغةً ومعنى وهدفا ولحنا، وتبقى مسألة الأداء تتأرجح بين ’’البراغماتية‘‘ و ’’المبدئية‘‘، ويعلو الأداء النشاز الذي يزعج ضمائر أحرار العالم وهم يحتفلون كل عام بأعياد إعلان حقوق الإنسان تحت ظلال قتام ثقيل من سياسات غض النظر والتغافل والمغالطات والاعتداء، ومن ممارسات مهينة للإنسان، ومن استغلال بشع للأطفال، واحتراف الفقيرات للبغاء والتسول، ومن هجرات متوالية عبر الحدود فرارا من سياط الظلم وأقبية الاضطهاد وسراديبه. ومع ذلك ففي أعماق كل ضمير حي يتجدد الوثوق بمستقبل تترسخ فيه حقوق الإنسان:
’’علينا لها: إنها الباقية
وإن الدواليب في كل عيد
سترقى بها الريح جذلى تدور!
وترقى بها من ظلام العصور
إلى عالم كل ما فيه نور!‘‘
ويرحم الله الشاعر الإنسان بدر شاكر السياب.
(1) نشرت في صحيفة العَلَم (المغرب)
21-12-1999