الباجه جي: الحكيم ألح بشدة للقاء بوش فسمحوا له بالسلام عليه فقط.. وأنا من رشحت طالباني للرئاسة الأولى للجمهورية
معد فياض:تنشر رووداو على حلقات كتاب "عدنان الباجه جي.. رجل بين قرنين"، فهذا الدبلوماسي الذي مثّل العراق في الأمم المتحدة لأكثر من 50 عاماً، وتبوأ منصب وزير الخارجية في الستينيات، ولد في بدايات القرن الماضي، ورحل في الربع الأول من القرن الحالي، وبهذا يكون بالفعل قد عاش بين قرنين مزدحمين بالأحداث العراقية والعربية والدولية.
كما التقى الملك فيصل الأول، مؤسس العراق الحديث، وعاصر كل رؤساء حكومات العهد الملكي ورؤساء الجمهوريات العراقية وصولاً إلى صدام حسين وما بعده. هذا الكتاب ليس مذكرات بالمعنى التقليدي، لم يكتبها الباجه جي بنفسه، بل هو صفحات بارزة من حياته، وتطلّب إنجازه المرور بمراحل عدة وعلى مدى أكثر من سبع سنوات، وعبر محطات بدأت في لندن عام 2010 وانتهت في أبو ظبي عام 2017، أنا أسأل وهو يسرد بدقة.
كنا نتناقش، ونحلل، ونبحث، ونمضي خلال أزمنة ودروب وأزقة تنطلق من حي السنك في شارع الرشيد، حيث ترعرع الباجه جي، ونذهب إلى مدن بعيدة، نجتاز بحاراً وقارات لنتتبع قصصاً وأحداثاً وشخوصاً وتواريخ. تحدثنا عن السياسة والمدن والأزياء وأسلوب حياة المجتمع العراقي خلال مائة عام تقريباً.
الحلقة (30)
ضد المحاصصة
عمل الدكتور عدنان الباجه جي على استغلال خبرته الدبلوماسية والسياسية لإعادة السلطة إلى العراقيين "عن طريق مجلس حكم موسع يتكون من 120 بدلاً من 25 عضواً، ينتخبون من بينهم هيئة قيادية أو تنفيذية تتولى حكم العراق وتهيئ لانتخابات لمجلس تأسيسي يضع الدستور، ووفق هذا الدستور تجري انتخابات للبرلمان وحكومة دستورية" كما أوضح سلفاً.
حمل الباجه جي مقترحاته هذه وذهب إلى جنيف. يتحدث عن هذه الرحلة قائلاً: "هناك قابلت الأمين العام للأمم المتحدة، ثم التقيت بوزراء خارجية الدول الكبرى الخمس، وكان أول من التقيت به كولن باول وزير خارجية الولايات المتحدة، وعندما عرضت عليه مقترحي اعترض وغضب وقال: نحن نريد الدستور أولاً، وأنتم تريدون أن تأخذوا السلطة. قلت :نعم، لأن كتابة وصياغة الدستور تأخذ وقتاً طويلاً وتحتاج إلى انتخابات، والعراقيون لن يستطيعوا الانتظار أكثر، شعبنا (مستعجل) لاسترداد سيادته الكاملة. لكنه لم يوافق على هذه الأفكار، وفي مقابلتي مع وزير الخارجية الفرنسي دومينيك دو فيلبان لمست بوضوح أن الفرنسيين متعاطفون جداً مع هذه المقترحات وكانوا يريدون مساعدة العراق، وكان موقف وزير الخارجية البريطاني جاك سترو مع الموقف الأميركي، بينما أعرب كل من وزيري الخارجية الصيني والروسي عن تعاطفهما مع العراق".
جولات دبلوماسية
ويبقى الباجه جي متشبثاً بالحلول الدبلوماسية التي خبرها وأجاد التحرك في مساحتها، لهذا يقرر، وحسب ما قال: "قبل عودتي إلى بغداد شكلنا وفداً من حركتنا (تجمع الديمقراطيين المستقلين) أنا ومهدي الحافظ ونصير الجادرجي وقمنا بزيارة إلى مصر حيث قابلنا الرئيس حسني مبارك، ثم التقيت لوحدي مع سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي".
يستطرد قائلاً: "بعد عودتنا إلى العراق صارت لجنة رئاسية لمجلس الحكم وكان عددنا تسعة أعضاء من بين 25 عضواً، وعلى أن تكون رئاسة المجلس دورية وشهرية، أي كل عضو من هؤلاء التسعة رئيساً للمجلس كل شهر وحسب الحروف الأبجدية، فكان إبراهيم الجعفري أول رئيس كون اسمه يبدأ بحرف الألف (أ). وطلب مني، الجعفري، مرافقته في جولة عربية شملت مصر والإمارات وعدداً من الدول العربية شرحنا خلالها للقادة العرب الوضع العراقي".
الباجه جي الذي لم يخبر في حياته التفرقة الدينية والقومية والطائفية، تلقى أول صدماته في هذا الموضوع بمجلس الحكم، يقول: "لكن أول صدمة لي في مجلس الحكم كانت التوجهات الطائفية للإخوة الشيعة في المجلس بحيث أنهم يضعون الحسابات كم من الشيعة هنا وكم من السنة هناك مع أية خطوة نمضيها والحديث عن مكونات الشعب العراقي. ثم أسس الجلبي البيت الشيعي الذي جمع فيه القياديين الشيعة".
يوضح قائلاً: "خلال رئاسة الجلبي لمجلس الحكم عقدت اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، فترأس هو (الجلبي) الوفد ودعاني لأن أكون نائباً للرئيس لحضور الاجتماعات في المنظمة الدولية، وألقيت هناك كلمة العراق، ثم عقدت اجتماعات مؤتمر الدول المانحة للعراق في مدريد خلال رئاسة إياد علاوي لمجلس الحكم وأيضاً دعاني للذهاب معه، إذ كان غالبية وزراء خارجية العالم في هذا الاجتماع، وألقيت كلمة نالت استحسان الحاضرين".
يستطرد قائلاً: "هناك دعتني رئيسة المؤتمر، وزيرة خارجية إسبانيا، إلى عشاء مختصر مع وزير خارجية الولايات المتحدة، كولن باول، ووزير خارجية الكويت، وكان هذا المؤتمر مهماً جداً. بعد عودتنا إلى بغداد، وكانت فترة رئاسة المجلس لجلال طالباني وقتذاك حيث كنا نجتمع في بيته، فوجئنا أن الموقف الأميركي قد تغير، إذ قالوا نريد تشكيل حكومة مؤقتة تستلم السلطة، وكان هذا تنفيذاً لمقترحي الذي قدمته إلى كوفي أنان ومجلس الأمن، لكن المرجع الشيعي السيستاني تدخل وقال: لا.. نريد انتخابات أولاً تتمخض عنها حكومة مؤقتة. وطلب رأي الأمم المتحدة في الموضوع".
بوش لم يوافق على لقاء الحكيم
سبّب تدخل السيستاني في الشأن السياسي من خلال اعتراضه على تشكيل حكومة مؤقتة تأخيراً في أن يستعيد العراقيون سيادتهم، يقول الباجه جي: "دعاني الأمين العام للأمم المتحدة للمناقشة فيما إذا هناك إمكانية لإجراء انتخابات قبل الحكومة المؤقتة أم أن تكون هناك حكومة مؤقتة تهيئ للانتخابات، كما طلب مني (أنان) أن أذهب إلى نيويورك عندما أكون رئيساً لمجلس الحكم للاجتماع معه والحديث عن دور الأمم المتحدة في العراق.
كان رأي أنان أن الوقت ضيق جداً لإجراء انتخابات سيما أن الإدارة الأميركية كانت قد حددت يوم 31 يوليو (حزيران) 2004 موعداً لتسليم السلطة، وهذا يعني أنه لم تكن أمامنا سوى أربعة أشهر وهي ليست كافية على الإطلاق للقيام بالانتخابات".
ومرة أخرى يأخذ الباجه جي طريقه إلى الأمم المتحدة، يقول "ترأست وفد العراق إلى الأمم المتحدة، كنت رئيساً لمجلس الحكم، وكان في عضوية الوفد عبدالعزيز الحكيم باعتباره الرئيس السابق لمجلس الحكم ومحسن عبدالحميد، كان رئيس الحزب الإسلامي العراقي، باعتباره الرئيس القادم للمجلس، وبناء على طلبات ورجاءات ملحة من قبل الحكيم وعادل عبدالمهدي وضعت اسم الجلبي في الوفد".
يستطرد قائلاً: "وصلنا إلى نيويورك والتقيت الأمين العام واقترحت إرسال مبعوث خاص من قبله إلى العراق لتقصي الحقائق حول إمكانية إجراء انتخابات في هذا الوقت القصير أم لا. من هناك دعاني الرئيس الاميركي جورج بوش لمقابلته، فذهبت إلى واشنطن وكان معي الحكيم والجلبي، إذ اعتذر عبدالحميد وقال (أنا لا أفهم كثيراً في هذه الأمور) لهذا بقي في نيويورك. استقبلني بوش بحفاوة وود بالغين باعتباري رئيساً لمجلس الحكم واجتمعت معه لوحدي، إذ بقي كل من الحكيم والجلبي في الانتظار خارجاً، ثم طلب الحكيم مقابلة بوش لوحده، فقالوا له بأنه لم يدرج اسمه ضمن لقاءات الرئيس الأميركي، لكن بعد الإلحاح وافقوا على أن يسلم فقط على بوش".
يقول الباجه جي "خلال لقائي بالرئيس الأميركي دعاني كضيف شرف لحضور خطابه السنوي عن حالة الاتحاد في مجلسي الكونغرس، وجلست قرب زوجة بوش في الشرفة المخصصة لضيوف الشرف، وجاء معي هوشيار زيباري وبعد أن ألقى بوش كلمته قال: أنا أغتنم الفرصة لأرحب اليوم بشخصية محترمة ومهمة وهو عدنان الباجه جي.. فصار تصفيق حاد، فقالت السيدة بوش (هذا التصفيق لك)، فنهضت وحييت أعضاء الكونغرس. عدنا إلى بغداد وانتهت فترة رئاستي للمجلس وجاء من بعدي محسن عبدالحميد رئيساً لمجلس الحكم".
الابراهيمي مبعوثاً أمميّاً
تنفيذاً لمقترح وطلب الباجه جي أرسل الأمين العام للأمم المتحدة، كوفي أنان، الأخضر الإبراهيمي كمبعوث عن الأمين العام للأمم المتحدة لتقصي الحقائق. يوضح الباجه جي قائلاً: "الابراهيمي التقى بمختلف العراقيين، من عرب وكورد وتركمان ومن مختلف الأديان والمذاهب، وقادة سياسيين، والمرجع الشيعي السيستاني. لم يترك أي جهة إلا والتقى بها. والإبراهيمي يعرفني جيداً فقد عملنا سوية في الأمم المتحدة عندما كان ضمن الوفد الجزائري وكان العراق، بل كنت أنا شخصياً، أدعم مواقفهم، فهو شخصية جيدة وله توجهات قومية عربية، وبعد لقاءاته ورصده لمجمل الأمور قدم تقريره الذي خلص فيه إلى أنه: من الصعوبة إجراء انتخابات خلال هذه الفترة القصيرة. واقترح: تشكيل حكومة مؤقتة بعدها يعقد اجتماع عام لاختيار لجنة لوضع الدستور".
البيت الشيعي
يوضح الباجه جي قائلاً: "للأسف لم يعقد هذا الاجتماع، لكن ردود الأفعال من أطراف عراقية جاءت غاضبة، حيث أقامت الدنيا ولم تقعدها، بسبب ما قاله الابراهيمي من أن: هناك نزاعات وتفرقة طائفية، وكان هذا حقيقياً وواقع الحال، هو بالتالي مبعوث عن الأمين العام للأمم المتحدة ولا يمكنه إلا أن يثبت الحقائق مثلما هي، لكنهم اتهموه بالكذب والطائفية بالانحياز إلى العرب السنة، وهذا غير حقيقي على الإطلاق، لهذا أنا دافعت عنه لمعرفتي به وبموضوعيته ومهنيته، وقد اصطدمت بحدة خلال نقاشاتي مع الجعفري وغيره في المجلس، وأنكروا وجود توجهات طائفية، مع أن البيت الشيعي كان يعقد اجتماعاته ويقدم مواقف شيعية موحدة، ومن هذه المواقف أنه بعد مقتل عضو مجلس الحكم عقيلة الهاشمي اجتمعنا لانتخاب بديلة عنها، فرشحت صفية السهيل وسلامة الخفاجي، وأنا دعمت السهيل وعملت من أجل وصولها إلى المجلس، وهذه من الخطوات التي ما زلت نادماً عليها، بينما اجتمع البيت الشيعي ودعم الخفاجي وفازت. الغريب أن حتى حميد مجيد موسى سكرتير عام الحزب الشيوعي العراقي آنذاك، كان عضواً في البيت الشيعي استناداً إلى مذهبه وليس إلى أفكاره أو حزبه. لقد وضعوا 13 شيعياً في مجلس الحكم ليكونوا الأغلبية، أساساً النظرة والتوجه كان خطأ، لو اختاروا أعضاء المجلس على أساس الكفاءة والعمل والنزاهة ما كان يهم، وإلا لماذا 13، لماذا لم يكونوا 15 أو 10، مثلاً".
دعمت طالباني لرئاسة العراق
يجد الباجه جي نفسه متصدياً لمسألة قانونية غاية في الأهمية بالنسبة لتاريخ العراق، يقول "كلفت برئاسة اللجنة التي وضعت قانون الدولة الأساس والذي كان النواة الحقيقية لصياغة الدستور، ووضعنا القانون وتمت مناقشته في جلسة ترأستها أنا، وحدث نوع من الاحتكاك مع الكورد للأسف مع أني من المؤيدين بشدة لحقوقهم الشرعية، وخلال اجتماع لهم في أربيل قبيل تشكيل مجلس الحكم دعيت إليه وألقيت كلمة وقلت أنا مع حق الشعب الكوردي في تقرير مصيره، وقد رحبوا بذلك بحرارة واعتبروا ما قلته مسألة تاريخية".
يتحدث عن سبب خلافه مع طالباني، قائلاً: “كان سبب الخلاف أو الاحتكاك الذي حدث بيني وبين الكورد هو أني أريد عراقاً موحداً وهم يريدون عراقاً مقسماً، لأنهم لا يطمئنون لحكومة مركزية قد تضطهد الكورد، وهم محقون في هذا كونهم عانوا طويلاً وكثيراً من اضطهاد الحكومات المركزية لهم، لكنني كنت أنظر للمستقبل وليس راهناً، وهم من حقهم تقرير مصيرهم أو الانفصال في أي وقت يشاؤون، وفي الوقت نفسه أنا لا أريد عراقاً مفككاً وضعيفاً، ويجب أن يبقى دولة موحدة قوية بدلاً من دولة مقسمة إلى كونفدراليات، أنا تفكيري وحدوي وأريد توحيد العرب ثم أفاجأ بأن العراق يتعرض للتقسيم؟ هذا صعب جداً بالنسبة لي".
وما وصفه الباجه جي "بالاحتكاك بيني وبين الكورد" لم "يتعد الملاسنة المؤدبة وفي حدود اللياقة والذوق بيني وبين جلال طالباني، وكان بسبب تعيين علي علاوي وزيراً للدفاع، فاعترض طالباني بسبب عدم تعيين عدد كاف من الضباط الكورد، فقلت إن وزير الدفاع هو المسؤول عن ذلك ونحن نثق به، فرد طالباني عليّ متسائلاً: وهل نحن لسنا موضع ثقة؟ قلت: أنا لا أعني ذلك، واستمر بالكلام العام الذي لم يقصدني به ثم تدخل مسعود بارزاني حيث كان رئيساً للجلسة وانتهى كل شيء، يعني المسألة لم تكن شخصية أبداً وأنا أحترم طالباني وأحترم تاريخه بدليل أنني أول من رشحه رئيساً للجمهورية عام 2005 عندما اتصلت به وقلت له سأرشحك لرئاسة الجمهورية، وكثير من العرب السنة اعترضوا".
ويبرر خطوته بترشيح شخصية سياسية كوردية لرئاسة الجمهورية، قائلاً: "لقد رشحت طالباني لأنني أردت أن أكسر طوق المحاصصات وأن نؤكد عراقية الكورد، فمرة يصير الرئيس كوردياً وأخرى عربياً سنياً أو شيعياً أو من أي فئة ما دام هو عراقياً لأنني خفت أن تتحول العملية مثلما حدث في لبنان، وقلت لماذا لا يصير الرئيس العراقي كوردياً فهو عراقي، والكورد تعرضوا للاضطهاد طويلاً، ومن هذا المنطلق وقفت ضد ترشيحه ثانية لمنصب الرئاسة حتى لا يكرس للكورد فقط، وللأسف، وعلى الرغم من الود الذي يظهره نحوي، عمل طالباني ضدي عندما رُشحت أنا لرئاسة الجمهورية".