الحدائق الخلفية للعنف
سناء الجاك
الحدائق الخلفية للعنف
ترتفع وتيرة العنف البشري مع جرائم يستسهل مرتكبوها إزهاق أرواح عابرين، لا ثأر لديهم ضدهم، كما حصل في أحد المراكز التجارية في كوبنهاغن أمس الأحد.
وكأن هذا العنف يمجد الرغبة في التمايز لدى المرتكبين من الباحثين عن تحقيق خصوصيتهم وذواتهم عبر أفعال تتمارى فيها أمراضهم النفسية وصولا إلى القتل.
ولعل تصريح الشرطة الدنماركية يوضح هذا التوجه، إذ اعتبرت أن المسلح الذي أطلق النار داخل "مركز فيلدز" التجاري بالعاصمة الدنماركية، تصرفا بمفرده على الأرجح، واختار ضحاياه بشكل عشوائي.
وقال كبير مفتشي شرطة كوبنهاغن، سورين توماسن، أن المحققين لا يعتقدون أن الهجوم، الذي وقع "له علاقة بالإرهاب".
وفي حين لم يحدد المحققون تعريفا واضحا لما قصدوه بالتمييز بين القتل العشوائي و"الإرهاب" في هذه الجريمة، إلا أن المقصود واضح.
ففي أوروبا والولايات المتحدة، غالبا ما تكون الأحكام المسبقة جاهزة ليتبناها المجتمع ويروج لها، عندما ترتكب أعمال عنف في أماكن عامة، وكأن القيمين على أمن هذا المجتمع يبررون من خلال هذه الأحكام تقصيرهم الجماعي في حماية المواطنين العزل من العنف المتجول.
والملاحظ أن مواسم العنف أصبحت تشكل ظواهر لا يمكن تجاهل تفاقمها في أكثر من دولة، وكأنها تزدهر في الظل، مع انشغال قادة العالم بالأزمات الكبيرة والحروب التي تهدد بتغيير الخرائط.
ففي الولايات المتحدة مثلا، تأتي الأرقام المتعلّقة بالجريمة لافتة وصادمة لجهة الجريمة الفردية، ونسبة ارتفاعها عاما بعد عام.
وكانت شبكة سكاي نيوز الإخبارية قد أوردت "إن الولايات المتحدة أنهت عام 2021 بـ 693 عملية إطلاق نار جماعي".
وفي النصف الأول من هذه السنة، سجلت وتيرة العنف ارتفاعا، فقد قتل 21 شخصا في حادثة إطلاق نار خلال شهر مايو الماضي داخل مدرسة ابتدائية في مدينة أوفالدي بولاية تكساس الأميركية.
ووقع الحادث بعد عشرة أيام فقط من إطلاق نار في سوبر ماركت "توبس" في بوفالو بنيويورك والذي أودى بحياة عشرة أشخاص.
أما في العالم العربي، فقد شهد شهر يونيو جرائم موصوفة ضحاياها من النساء.
ففي مصر أقدم قاضٍ على قتل زوجته الإعلامية شيماء جمال، كذلك قتلت الطالبة نيرة أشرف أمام باب الجامعة، بالإضافة لجريمة ثالثة راحت ضحيتها الطالبة إيمان أرشيد في الأردن.
وفي لبنان لم ننس بعد قتل فاطمة عباس وبناتها الثلاث قبل أشهر. فظاعة الجريمة روجت لتناقل أخبارها، في حين حصلت جرائم أخرى متنقلة بين القرى اللبنانية، لم تقتصر على النساء، وغالبيتها وقعت بعد شجارات أقل ما يقال فيها أنها تافهة. ولا تبرر إزهاق أرواح ضحاياها إلا سهولة حيازة الأسلحة الفردية وغياب السلطة الأمنية والقضائية الحازمة.
وكأن العنف ينمو في حدائق خلفية على امتداد العالم، أو كأن الحدود أزيلت بين منظومة الثقافة والانفتاح ومنظومة التخلف.
فالمجتمعات المفتوحة على الحرية من دون ممنوعات تشهد ما تشهده مجتمعات مغلقة ومقيدة بالتقاليد والأعراف.
وفي الحالتين، يمكننا ان نتصور أجيالا يتحكم بها الخوف جراء العنف المنتشر، ما يهدد بتحويل الخائفين إلى ضحايا حقد يقلب الأبيض أسود والأسود أبيض.
ويربط المراقبون جرائم العنف بالأزمات العالمية، التي بدأت مع جائحة فيروس "كورونا"، ولم تنته مع الحرب الروسية الأوكرانية، ما يؤشر إلى خلل أصاب الأمان الاجتماعي للأفراد، بفعل غياب الأمان الاقتصادي لمجتمعات تعودت الاعتماد على تقديمات الدولة، فتغيرت نمطية التفكير الكلاسيكي للبعض، ودفعتهم إلى الانغلاق داخل هواجسهم، وصولا إلى تطرف غير مألوف وغير معرَّف في العلوم الاجتماعية.
وبالتالي، فإن العقول المنتشية بانغلاقها، أينما كان، جنحت نحو العنف، ولم تعد تتفاعل مع كل ما هو خارج عنها، وكأن لا دورة دموية تخترقها ولا وظائف للبصر والسمع والتفكير والمنطق تعمل بين تلافيفها.
وهذا الواقع يفرض نظرة مختلفة إلى العالم الذي يحتاج إلى التقاط أنفاسه مع هذا العبث بالانتظام الذي يديره الكبار، من غير أن يهتموا بأفعالهم التي تؤدي، على ما يبدو، إلى إعدام ثقافة الانفتاح وقبول الآخر، وإلى هرب البعض من مواجهة الحاضر المقلق والمستقبل الغامض، باتجاه حدائق خلفية للنفوس البشرية، يسهل فيها اللعب بالمصائر واستسهال القتل ومن ثم الانتحار، كما يحصل غالبا.