من ملامح التجديد الفكري و الفني في شعر جماعة أبولو
خليل حمد*
من ملامح التجديد الفكري و الفني في شعر جماعة أبولو
تسلط هذه المقالة الضوء على الدور التجديدي لجماعة أبولّو فكريٍّا و فنيًّا، من خلال الإجابة على السؤال "ما المهمة التجديدية التي اضطلع بها شعراء أبولّو في اتجاهاتهم نحو تحديث الشعر العربي المعاصر؟ و ما مدى تأثير الجماعة في الساحة الأدبية المعاصرة فكريًّا و فنيًّا؟
و تهدف المقالة إلى تناول أبرز ملامح التجديد الفكري و الفنِّي في المضمون الشعري، من بين جهود أبولّو في إثراء النهضة الأدبية ، التي شهدها الأدب العربي في العصر الحديث، والكشف عن القيمة الأدبية لأشعار الجماعة وأثرها الحي في المشهد الأدبي المعاصر؛فقد اهتمت بالقضايا الأدبية والنقدية الرامية والبحث في أنجع السبل لتطوير الأدب، ولاسيما الشعر، باعتباره أداة فنية تعبر عن روح الفرد والجماعة. بالإضافة إلى الصدى الذي أحدثته مجلةُ جماعة أبولّو ؛ إذ غدت ملتقى لإنتاج كثير من الشعراء والكتاب والنقاد في مصر وخارجها، و نشرت أعمالا فنية ونقدية راقية.إلى جانب القيمة الفنية و العلمية لمجلة أبولو العريقة ؛ فهي أولُ مجلة متخصصة بالشعر في العالم العربي، و قدأثَّرتْ في الأدب العربي الحديث تأثيراً كبيراً، تمثل في القصائد والدراسات الأدبية والنقدية التي تولت نشرها، و يُذكر أنها نشرت أكثر من سبعمائة قصيدة، وأربعمائة دراسة تحليلية ونقدية، بالإضافة إلى تخصيص عددين لإحياء ذكرى شوقي وحافظ؛ وصار لهم أتباع كثيرون في وقت قصير، حتى انضوي تحت لواء الجماعة أكثر من مائة شاعر في العالم العربي.(درويش،2010م:29)1.
التعريف بالجماعة:
جماعة أبولّو تُعدّ أحد أبرز المدارس الأدبية المهمة في الأدب العربي الحديث، و قد أنشئت بالقاهرة على يد الشعر أحمد زكي أبو شادي (1892-1955م ) ، الذي لم تصرفه اهتماماتُه العلمية عن الأدب والتفكير في إنشاء مدرسة تحتضنه وتهتم به(خليل،(2008)،14). 2
و كلمة" أبولّو" Appolo مأخوذة من اللفظة الإغريقية ( أبو لّلون Appolon) إله النور والفنون والجمال عند اليونان ، وتسمية هذه المدرسة بهذا الاسم يدل على التأثر بالثقافة الأجنبية والانفتاح على الآداب الإنسانية.(العزب،1980م:144)3.
بقول ميخائيل نعيمة المهجريّ متحدثا عن فترة ولادة أبولّو: وفي هذا الوقت ظهرت جماعة أبولّو فوجدتْ طريقا مُمهدا إلى حدّ كبير؛ حيث يُعدّ أحمد زكي أبو شادي مؤسس الجماعة، ولم يلتزم بمذهب شعري معين، بل اتّخذ من كل الاتجاهات الفنية الأوروبية مثالا له في نظمه مع من اتبعه من جماعته (أبو شادي،1926م:40)4. وهكذا نشأت هذه الجماعة، في ظروفٍ تكاد تكون واحدة من النواحي السياسية والاجتماعية والتربوية والفكرية، وكان في نفوس شبابها رغبة التحرر من قيود القديم، لمواكبة الحديث ومن أجل التقدم، وهذا ليس مستغرباً، وعبر مؤسس الجماعة ورائدها أحمد زكي أبو شادي عن ذلك التحرر بقوله، -وهنا أقتبس-:
”إني أوقن أن الكون في تحوّلٍ مستمرٍ، وأن الفكرَ الإنساني في تبدلٍ وتطورٍ، وأن ما نراه حسناً الآن قد لا يرضى عنه جيلٌ مقبلٌ، كما أننا لم نرضَ عن كثيرٍ مما استحسنهُ أسلافنا، ولكن، كل هذا لا يعني أن جهدنا عديم الجدوى، ولن يطالبنا العقل أكثر من الوفاء لعصرنا، الحاضر خاصةً، ولجوهر الفكر الإنساني عامةً (العشماوي،1980م:95-96)5
إن هذا القول – من كلام أحمد زكي أبو شادي - يجعلنا نُدرك أن الصراعَ المستمرَ بين الجديد والقديم، والانتقال من القديم إلى الجديد، حتميةٌ اجتماعيةٌ؛ لأن هذا الانتقال غالباَ ما يكون مرتبطاً بحياة الأمة الاجتماعية وبالرغبة في تحوّل التيار القديم إلى تيارات أخرى جديدة أقربُ إلى إحساسهم وأكثر تماشياً مع مُلابساتِ حياتهم (بطرس،2005م:314)6.
وقد أتت الجماعة بعد مدرسة الديوان التي أنشأها العقاد والمازني وشكري بأكثر من عشر سنوات. و ضمت رموزا و طلائع من شعراء الوجدان الرومانسيين في مصر والعالم العربي، ومن روادها: إبراهيم ناجي، وعلي محمود طه، وعلي العناني، وكامل كيلاني، ومحمود عماد، وجميلة العلائلي.
و كانت الجماعة تهدف إلى الارتقاء بمستوى الأدب العربي، ولا سيما الشعر، وتخليصه من قيود الصنعة والتقليد والمحاكاة التي ارتكس فيها طوال القرون الوسطى، وتوجيهه للتعبير عن مشاهد الطبيعة، وصور الحياة، والعواطف الإنسانية في لغة جميلة، وتعبير حي مؤثر، يزخر بالخيال البديع والصور الأدبية المبتكرة.
النزعة العاطفية الرومانسية:
اللون الغالب على نتاج هذه الجماعة هو اللون الرومانسي، وقد ساعدت عوامل مختلفة على بروز وبلورة هذا الاتجاه الذي عُرِفت به جماعة أبولّو (نشأت،1967م:421)7، وهذا ما كشف عنه الدكتور إدريس بكري في رسالته عن (ألفريد دي موسيه و جماعة أبولّو- دراسة مقارنة)، وهو يطلق عليهم اسم (جماعة) نظرا لتشعب الاتجاهات و إن اتفقوا جميعا في الأهداف الأساسية.
و بفضل هذه الجماعة- وغيرها من التيارات التجديدية الحديثة الأخرى- أصبح يُنظر إلى الأثر الأدبي من حيث قدرتُه على التأثير والإيحاء، وترجمته للمشاعر والانفعالات الإنسانية.
هي جماعة أم مدرسة؟
يتبادر إلى الذهن هنا سؤال: "هل شكلت هذه الجماعة مدرسة أدبية لها خصائصها، وأهدافها، وطابعها الخاص، أم كانت جماعةٌ تجديديةٌ؟" يرى مندور أنها لم تكن مدرسةً متجانسةً ذات مذهبٍ موّحدٍ ذي خصائص مميزة، وهو بذلك ينفي عنها صفة المدرسة (بكري، عن مندور،1954م:42)8 ويقول بقوله شوقي ضيف؛ حيث يراها جماعة يعوزها التخطيط (ضيف،1957م:70)9.
و يذهب كمال نشأت إلى أن عدم وجود مذهب أدبي محدد تُعرف به جماعة أبولّو لا ينفي كونها مدرسة لها لونها وطابعها الذي ساد نتاج شعرائها الذين جمعتهم الصداقة والرغبة في محاربة القديم ومجاراة الجديد والتأثر بالتيارات الأدبية الغربية والانطلاق مضموناً وشكلاً ، و بالأخص الاتجاه الرومانسي.
و الرومانسية أو الرومانتيقية (Romanticism) هي حركة فنية أدبية وفكرية أُشعل فتيلها في فرنسا – ولا عجب – فقد قيل قديماً: "إن فرنسا معامل أفكار أوروبا"، في أواخر القرن الثامن عشر للميلاد وسرعان ما راجت الحركة في بلدان أوروبية أخرى.
و تؤكد الرومانسية على أن قوة المشاعر والعواطف والخيال الجامح هو المصدر الحقيقي والأصيل للتجارب الجمالية، مع التركيز على شتى العواطف الإنسانية مثل الخوف، والرعب، والهلع، والألم.
و تعدّ الرومانسية ثورة على العقل وسلطانه، وعلى الأصول، والقواعد السائدة، وبعبارة أوسع وأشمل كانت الرومانسية تهدف إلى التخلص من سيطرة الآداب الإغريقية والرومانية.
ومن روّاد الرومانسية الأجانب: جان جاك روسو، وشاتوبريان، وبودلير، وتوماس جراي، وليام بليك، وشيلي، وجون كيتس، وبايرون، وغوته، وشيلر (هلال،1973م:20)10.
و لعل ما يثير الأسف أن كثيراً ممن يتحدّثون عن الاتجاه الرومانسي في الأدب العربي، وتأثره بالرومانسية الأوروبية يوجهون أغلب حديثهم نحو تأثُّره بالأدب الإنجليزي، من غير أن يعطي تأثره بالأدب الفرنسي حقه، وينسون أو يتناسون أن خليل مطران – الذي يعتبر من أكبر روّاد الرومانسية في الأدب العربي – قد تأثّر بالأدب الفرنسي أكثر من تأثره بأي أدبٍ آخر خارج حدود أدبه القومي؛ فقد كان يُعجب بالأدباء الفرنسيين أمثال (فيكتور هوجو) و (موليير) و (لامارتين) و (ألفريد دي موسيه) (بكري،2012م:242-252)11.
ولم يكن خليل مطران الوحيدَ الذي تشرّب بأفكار موسيه، بل كان إبراهيم ناجي كذلك، ويحتمل أن يكون تأثره يرجع إلى قراءته لأعمال موسيه وإعجابه بها.
ويذكر طه حسين في كتابه "حديث الأربعاء" أنه يرى لقاء شعورياً وتأثراً واضحاً في قصيدة "غرفة الشاعر" للشاعر علي محمود طه بألفريد دي موسيه (طه حسين،1924م:164)12.
و قد وضح الدكتور إدريس بكري مدى تأثر جماعة أبولو بالرومانتيكيين تحديداً الشاعر الرومانتيكي (ألفريد دي موسيه) من خلال دراسة علمية تناولت الموازنة بين إنتاج جماعة أبولو و شعر دي موسيه.
مفهوم التجديد في الشعر العربي الحديث: هو أن يتمّ كسر قواعد شعريّة قديمة وخلق قواعد مبنيّة على أسس جديدة تتسم بالابتكار في النسق، والصورة، والمفردة، والشكل، والمضمون، أو في أيّ شيء آخر، ما دام يتماشى مع أصول الذائقة ولا يخلّ بقوانين الشعر الضمنيّة، وهو إبداع بكر يغمر المرء بالمتعة، والانبهار، والبهجة.( خضر،2016).13
خصائص المضمون الشعري عند الجماعة:14
يتميّز مضمون الشعر عند جماعة أبولّو بخصائص التنويع على الوجدان الذاتي وبالانحناء على الذات انحناء مفتشاً في اعماقها عن كوامن الحس وبواعث الشعور، وبنوعية خاصة من الانفراد بالحزن، وبروح النزوع التأملي في الظواهر الكونية الجامدة والحية إلى نوع من المشاركات في مختلف
الميادين... على أن تكون العناصر جميعها قد مرت على الذات الشاعرة من خلال التجربة الشعرية وليس من خلال الذاكرة وصورة المثال في الحافظة (العزب،1967م:148-149)15 .
ولم يكن المضمون الشعري عند جماعة أبولّو هو مضمون القدامى للشعر، فأبو شادي يراه بأنه البيان لعاطفة إلى ما خلف مظاهر الحياة لاستكناه أسرارها، وللتعبير عنها (صدمة الحداثة:116)16 ، وأرقى أنواع الشعر عنده هو الذي يتصل بالحياة اتصالاً ويتجه بها إلى مثالٍ عالٍ مسعد ، وأن يكون صورة لمزاج الشاعر وفكره (أبو شادي،1926م:1190)17 ، ويعتمد – الشعر – على طاقته لا على الصنعة أو الموسيقى أو البهرج (خفاجي،بدون:1/97)18 .
وبوساطة المضمون يستطيع الشاعر أن يعبر عن جوانب الحياة كلها لأن الشعر "هو درس الحياة وتحليلها وبحثها وإذاعة خيرها ومكافحة شرها. وهو غرض نبيل جامع وإن تكيف بصور شتى، فقد يظهر في لباس الإنسانية العامة، أو في لباس الجامعة الدينية أو غير ذلك" (أبو شادي،1926م:43)19 ، وعلى وفق ذلك المفهوم للمضمون الشعري عند أبي شادي يصبح الشعر عاملاً من عوامل القوة، ويجب استخدامه في ميادين الحياة كافة لخدمة الحياة (أبو شادي،1926م:42)20 .
فـأبو شادي يرى أن المضمون الشعري الجديد يجب أن يفصح عن السمو والارتقاء في الحياة ولعل في قوله عن مستقبل الشعر ما يعزز هذا الرأي ؛ إذ قال: "وما الشعر في اعتباري إلاّ نبع الإحساس العميق والتأمل البعيد والنظر إلى ما خلف المظاهر. ومن المشاهد أن رقي الحضارة يرهف الإعجاب ويحد الأذهان ويزيد رقة الإحساس، وكل هذه عوامل تنتج الشعر وتهيئ النفوس لقبوله بل إلى الإلحاح في طلبه غذاء روحياً لها. فمن ينكر مستقبل الشعر مخطئ لم يدرس بعناية العوامل التي أنبتت الشعر منذ فجر المدينة ولا تزال تغذيه وتحافظ عليه وستضمن له خلوده" (نظرية الشعر،بدون:489)21 شرط الحرية في التعبير عن المضمون ؛ لأن الشعر لا يحيا إلا في أجواء الحرية.
ودافع أبو شادي عن حرية الشعر المطلقة موضوعاً وتعبيراً، والشعر فنُ رفيعُ متى بلغ الذروة بإنسانيته وبقيادته الجريئة الحرة، كان الرائد لحركات التطهير والإصلاح والارتقاء (خفاجي،بدون:1/98)22 .
وتمرد الشابي على المضمون الشعري للشعراء المعاصرين له، وكان يؤمن بأن لا سبيل إلى بعث الشعر العربي إلا بخلق الشعر الحي الذي يعبر عن روح العصر، مصوراً للحياة الحديث وما يجري في آفاقها من معانٍ جديدة ولا غرابة في أن نرى الشابي ثائراً على التعريف الذي يجعل من الشاعر مؤرخاً لعصره وعاداته وأخلاقه ؛ إذ كان يرى أن الشاعرية الحقة هي التي تصور عادات الحياة الخالدة على الدهر، كما فعل ذلك الشعراء العالميون لا عادات بيئاتهم (الشابي وجبران،بدون:11-13)23 .
وفي ظل ذلك المفهوم تحول المضمون عند الشابي من التغني بأمجاد الطبقات إلى تصوير الحياة والتعبير عنها، والتعبير عن العواطف والأخيلة الخالدة التي يحملها الإنسان (الشابي
وجبران،بدون:13)24 . وهذا الكلام لا يتقاطع مع مفهوم أبولّو للحداثة في جانب البيئة لأن عادات الحياة الخالدة جزء من الروح الجماعية الحية ؛ فقد جعل الشابي مضمونه يدور في فلك الحياة ؛ إذ نراه يعبر عن الانتشاء بالحب والحياة، بتعبيرات يندر ما يماثلها في شعر معاصريه فشعره مرصّع بلمحات ميتافيزيقية ترتفـع به على الفـور (الجوسي،بدون:243)25 ، ومن أمثلة ذلك قصائده: "قلب الأم" (أغاني الحياة:129-133)26، و "الصباح الجديـد" (أغاني الحياة:159-161) ، و"الجنة الضائعة" (أغاني الحياة:147-150)27 ، و "الحاني السكري" (أغاني الحياة:165-166)28 . وفي جميعها نجد مضمونه يبدأ من نفسه: من مشاعره الذاتية، حتى يصل إلى حب الحياة، وبذلك كان أرقى شعور في هذا العالم عنده هو الحب ؛ ولذلك جاء مضمونه معبراً عن الجانب الإنساني الرفيع فيها (الشابي شاعر الحب،بدون:42-43).29
يفصح الشابي عن ثلاثة أفكار في مضمونه الشعري وهي: فكرة إرادة الحياة، وفكرة الموت، وفكرة البقاء للأقوى (الشابي شاعر الحب:61-69)30 ، وكلها تصب في معنى استمرارية الحياة، وهذا ما يجعلنا نقول عنه بأنه صاحب فكرة حياتية شاملة عن الإنسان والحياة، ويكون بذلك أيضاً من الشعراء العرب الذين حاولوا أن يصلوا إلى مستوى فلسفي رفيع بأفكاره هذه، واستطاع أن يتخلص من مفهوم الشعر الجميل بألفاظه وموسيقاه، وسار في طريق التعبير الراقي والرفيع.
و ظاهرة ارتقاء الذاتية في مضمونه الشعري هي التي دفعت ميخائيل نعيمة إلى القول: "نحمد الله! فالشعر في لبنان ينهض من رموس التقليد والجمود وينفض عنه الغبار ويمزق الأكفان" (البستاني،بدون:46)31.
يرى أبو شبكة أن الفنان يمتلك معرفة داخلية بالأشياء الخارجية، وقدرة على إدارك العالم الخارجي عن طريق حواسه (أفاعي الفردوس،بدون:10)32 ، وإن "الشاعر الحقيقي هو تاريخ عصره ملحناً" (أفاعي الفردوس،بدون:21)33 .
إن معيار الشعرية يكمن في الإبداع والتجديد والتحوّل من النمطية الراسخةِ إلى التجريب المتحوّل؛ إذ "لا سبيل إلى أن يتجدد أدبنا تجديداً خصباً إلا إذا استزاد أدباؤنا وشعراؤنا من التعليم والثقافة بالقديم والجديد في وقت واحد" (طه حسين،1978م:38)34.
مظاهر التجديد عند جماعة أبولّو
التجديد في ابتكار المعجم اللغوي الخاص و استخدام الصورة الفنية
تفنّن شعراء جماعة أبولّو في استخدام المفردات اللغوية استخداما خاصّا مبتكراً، مما أضاف جديدا في المعجم الشعري الحديث. ومن نماذج ذلك كما ورد في أشعارهم:
أ- استعمال المفردات اللغوية استعمالاً جديدا:
الكعبة: كان شعراء أبولّو يطلقون هذه الكلمة على موطن المحبوبة أو أطلالها دلالة على تقديس المكان، كما نجد الشاعر يجعل وصول محبوبته ولقاءه حجا، وكان مكان لقاء كعبة، قال أبو شادي:
فطفت في روعة أن وفي شغف *** حجّا وإن لم أذق في نعمة فاك!
فأكملي حجي المبرور سمحة بالوصل في محفل للحبّ ضحاك (أبو شادي،1993م:22)35 .
قال إبراهيم ناجي:
جمالك نبراسي وروحك كعبتي *** وعيناك وحي في الحياة وإلهامي (ديوان ناجي،بدون:275)36 .
ويقول صالح جودت:
أنا في حبك حبك صوفي *** وفي عينيك ديري
وإلى كعبة هذا الحسن ترحالي وسيري *** حكاية قلب اصفو ظلموني (صالح،بدون:103)37.
الخمر:
استخدم شعراء أبولّو الخمر استخداما جديدا بشكل غير مألوف وإن كانوا استخدموا الخمر بشلكها المعهود كذلك، قال ناجي:
يا حبيبي اسقني الأماني واشرب *** بوركت خمرة الرضا وهي تسكب (ناجي،بدون:89)38 .
يقول الصيرفي:
يا خمرةَ الفنّ! لو أسكرتني لِسَمت *** روحي إلى عالم الحلم أشهده (الصيرفي،1980م:31)39.
ويقول الهمشري:
الروح إن ظمئت يوما فحاجتها *** خمر سماوية فاحت بها قدسا (جودت،1963م:90)40 .
يقول الشابي:
وأراق خمر الحبّ في *** وادي الكآبة والأنين
أي خمر رشفت بل أي نار *** في شفاه بديعة التكوين (التليسي،بدون:53)41 .
إن هذه الألفاظ ناسبت نزعتهم الوجدانية وتجربتهم الرومانسية، فكلّ هذه تتمازج مع بعضها البعض فتكون الصور، وقد نتج عن هذا أن تميّزت لغة كلّ شاعر منهم على حدة (السيد،2007م:181)42 . وهكذا عكست الألفاظ نفسيتهم بصورة جديدة سايرت عصرهم .
إن الصورة عند الشعراء الرومانسيين أو الوجدانيين تمثّل مشاعر وأفكار ذاتية، فيخلطون مشاعرهم بالصور الشعرية، ويناظرون بين الطبيعة وحالاتهم النفسية، ويرون في عناصرها أشخاصا تفكّر وتأسى لحالهم، كما يعلنون تبرمهم وسخطهم على مناظر الطبيعة التي يرونها غير متجاوبة مع مشاعرهم، فالصور في أشعارهم تتمحور حول الذات وتغوص في أعماقها (عبد الله،1981م:18)43 .
كما يعتمد كثير من الشعراء الرومانسيين في صورهم على طائفة التشبيهات والمجازات ذات الطبيعة الوجدانية والخيالية الخالصة والتي تكثر فيها الألفاظ المحمّلة بالدلالات الشعرية والرموز. ولكن هذه التشبيهات والرموز تدور حول محاور من ألفاظ ومعان كالنور والألوان والألحان والعطور.
وتمتزجّ هذه العناصر في الصورة الشعرية الواحدة فتغنينا رومانسية ألفاظها عن التشبيه المبتكر أو المجاز الطريف، ومن مظاهر التجديد (القط،1981م:408)44 :
تراسل الحواس:
بحيث يستعمل للشيء المسموع ما أصله للشيء الملموس أو المرئي أو المشموم، ومن هنا يتحدّثون عن نعومة النغم أو بياض اللحن، أو تعطّر الأغنية، كما يتحدّثون عن العطر القمري، أو الأريج الناعم وغيرها (محمد،2006م:83)45 . نجد عند عليّ محمود طه، يقول في الأنوار:
دعيه يرشف الأنوار *** من ينبوعها السامي (طه،بدون:341)46 .
أما الهمشري فإنه يجد العطر المشموم شفقا منظورا، حيث يقول:
أنت عطر مجنّح شفقي *** فاوح الروح في همود الذهول
قد سوي في الخيال طيب *** شذاه من زهور في شاطئ مجهول (جودت،1963م:110)47 .
وهكذا عملت جماعة أبولّو على استلهام جراءة الرمزية في تحطيم الحوائط العازلة بين ما هو محسوس وما هو ملموس، وما هو مرئي وما هو مسموع في اللغة (عشري،1978م:174)48 . واستلهمت التراث بطريقة مبدعة متأثرة بالشعر الغربي.
التشخيص:
يستخدم للإشارة إلى خلع الصفات والمشاعر الإنسانية على الأشياء المادّية والتصورات العقلية المجرّدة. ويُعلّل لجوء الشاعر إلى ظاهرة التشخيص بأن "مظاهر الكون الحسية والمعنوية إنما تجمع بينها الوحدة العميقة والعلاقات الوثيقة والأشياء التي حولنا لها حياة خفية، وكيان يشبه كياننا، ولعلّ هذا عامل من عوامل لجوء الشاعر إلى ظاهرة التشخيص" (السعدني،بدون:87)49.
يقول محمود حسن إسماعيل:
وتخال الضحى عليه برودا فصلت *** من سنا شعاع وعسجد
وقدود النخيل قامات غيد *** ساكرات من خمرة الطلّ مبيد
خفقت حولها الدوالي وناحت *** وتأست على الأسير المقيّد
لطمت سوقها على الثور حزنا *** حرّة فجعت على مستبعد (محمود،بدون:98)50 .
إن إحالة الضحى إلى برودة ذهبية لشببهه ذلك اللون الذهبي وجعل أعواد النخيل لا تشبه القدود التي تميد من تعاريج النسيم لها ومن خمرة الطلّ المسكرة، وكذلك جعل الدوالي المروعة حزنا على الثور لا تشبه النساء الحزينة إلا في لطم الخدود، على المستبعدين يعين أن العلاقة بين الأطراف لا تتعدّى كونها علاقة حسّية بصرية.
فيتصور شعراء أبولّو ما ليس إنسانا وكأنه إنسان يُحسّ إحساسه ويفكّر تفكيره، ويفعل أفعاله مثل يرقص الغرام عند أبي شادي، ويصبح نديما للمحبوبين، يقول:
في مجلس رقصِ الغرام *** به وكان لنا النديم (أبو شادي،بدون:83)51 .
وأما محمود حسن إسماعيل فإنه يجسد الغرام شيئا ماديا يختلس من شرفات المحبوبة، فيقول:
كم وقفنا حيال قصرك نبكي *** وخلسنا الغرام من شرفاتك (محمود،بدون:116)52 .
وبذلك يكون التشخيص صفة عميقة موغلة في كياننا، وهو ذو قدرة على التكثيف والاقتصاد أو الإيجاز، وقد عزا إليه ريتشارد الفضل في تجنّب انتشار الدوافع الانفعالية، ونبذها لذلك يتميّز عن كل أسلوب يراد به أحداث مفاجئة أو مخادعة فضلا عن أسلوب الشرود الذهني التي تفسد العاطفة (مصطفى،1988م:99)53 .
التجسيد:
هو تحويل المعنويات من مجالها التجريدي إلى مجال آخر حسّيّ، ثم بثّ الحياة فيها أحيانا وجعلها كائنات حيّة تنبض وتتحرّك (هيكل،بدون:99)54 .
وترى محمود حسن إسماعيل يجسد الشك في قوله:
قد كنتُ روضا يانعا كل زهرة *** لديه أروي في عطرها رأس حبّة
وأسمع فح الشكّ تحت ظلاله *** كما يسمع اللحن الرخيم بضجة
ففيه أفاع للظنون غريبة *** تطلّ مع الأضواء من كل زهرةٍ (محمود،بدون:46)55 .
ويجسد الصيرفي أيضا المعنى فيجعلها كائنا حيّا يموت ويحيا، يقول:
شكرا لمن أحييتَ صوت *** المعنى فنور الزهر ببستاني (الصيرفي،1980م:60)56.
التجريد:
وهو تحويل المحسوسات من المجال المادّي الذي هو طبيعتها إلى مجال معنوي هو من خلق الشاعر، فالشاعر أبو شادي يجرّد محبوبته من صفاتها الإنسانية ويجعلها أنغاما ونورا وآيات هدي يقول:
يلقاك أنغاما ونورا كما *** كما يلقاك آيات هدي سطره (أبو شادي،بدون:53)57 .
قال إبراهيم ناجي:
عرفناك كالمحراب قدسا وروعة *** وكنت صلاة القلب في السر والجهر (ناجي،بدون:176)58 .
التشبيه:
استخدم شعراء أبولّو التشبيه في صورهم الفنية إذا كان تشبيها تربط بين المشبه والمشبه به أداة أم كان تشبيها بليغا، وقد تتراكم عندهم الصور لتعمل جميعا على إجلاء صورة مشبه واحد في القصيدة أو المقطع، وتتراكم التشبيهات البليغة عند ناجي، فيقول مخاطبا محبوبته، يقول:
يا مناجاتي وسري *** وخيالي وابتداعي
ومتاعا لعيوني *** وشميمي وسماعي
تبعث السلوى وتنسي *** الموت مهتوك القناع (ناجي،بدون:46)59 .
وكما تتراكم التشبيهات عند الشاعر لإبراز الصورة فإن الصورة التشبيهية قد تأتي مفردة وهذا أكثر استخداما مثل تشبيه أبو شادي لقلبه مستخدما أداة التشبيه، كأن مصورا مدى تعلقه بمحبوبته، قال:
أناجيك في دقات قلبي والها *** وكان فؤادي طائر رفّ في العتيد (أبو شادي،بدون:52)60 .
الوحدة العضوية:
يرى الدكتور أحمد عرين أن الوحدة العضوية للقصيدة أن تحكم الصلة بين أجزاء القصيدة إضافة إلى وحدة الموضوع ووحدة الفكر ووحدة المشاعر التي تنبعث عن نفس الشاعر لذلك أصبحت عنوان القصيدة جزءا لا يتجزّأ من وحدتها العضوية وزادوا على ذلك ذكر عناوين نحملها صدور دواوينهم تدل كثيرا مما تحمله محتوى الدواوين، وكانت معظمها تستوحي من الطبيعة متشبهين بالرومانسيين (عيرن،بدون:198)61 .
ويبدو أن مطران أول الشعراء العرب الذين نادوا بفكرة الوحدة الفنية في القصيدة بوصفها كائنا حيا متماسك الأعضاء، وكذلك سار على دربه زكي أبو شادي، وبعد ذلك سار على دربهم شعراء أبولّو، حقّق شعراء أبولّو الوحدة العضوية في قصائدهم مثل قصيدة العودة أو الأطلال على طولها، لناجي يقول الشاعر:
هذه الكعبة كنا طائفيها *** والمصلين صباح مساء
كم سعدنا وعبدنا الحسن فيها *** كيف بالله رجعنا غرباء (القط،1981م:376)62 .
ثم يمضي في بيان إحساسه مزاج بين الماضي والحاضر، يقول:
دار أحلامي وحبي لقيتني في *** جمود مثلما تلقى الجديد
أنكرتنا وهي كانت إن رأتنا *** يضحك النور إلينا من بعيد
ولأول مرّة في الشعر الحديث يصبح عنوان القصيدة جزءا لا يتجزأ من وحدتها الفنية.
التجديد في طريقة تناول الموضوعات الشعرية ومعالجتها:
أ/ الحبّ:
التغني بالحبيبة بلا شك من الموضوعات الأولى في الشعر والتي لازمته منذ نشأته، وقد خاض الشعراء بحر الغزل على اختلاف أزمنتهم، وتباين مذاهبهم، وتعدّد مشاربهم، وشعراء أبولّو لم يكونوا نشازا عن هذه السيمفونية الغزلية الممتدّة بامتداد تاريخ الشعر العربي، وها هو ذا أبو شادي يقول في هذا المجال:
خطرتْ فمكّنتِ الهوى تمكينا *** وشدّت فرّجعت القلوب رنينا
نزعَت برقّتها الشعور فأشفقتْ *** وبكتْ فكان أنينها التأبينا
تخشى الملامة في الغرام إذا عفتْ *** فجفت وكنتُ على الشقاء أمينا
عُوّدتُ مرّ العيش حتّى لم أبِتْ *** إلا بصيرا بالهموم رَزِينا
ما ينفعٌ الصّبّ الكئيبَ من الجوى *** يحنّ من البُكاء حنينا
أسَفي على عهدِ الصبابةِ لم يكُنْ *** إلا شعاعا كاذبا مظنونا (أبو شادي،بدون:18)63 .
في هذه القصيدة يبدي الشاعر أساه وحزنه على هذا الحب الذي لم ينل فيه محبوبه، فقد تمكن فيه العشق وأبكاه عينيه فبات مهموما باكيا. أسف الشاعر على عهد الصبابة الذي ما كان إلا
سرابا. وأبو شادي في هذه القصيدة لم يخرج عما ظلّ يطرحه الشعراء في هذا المجال، فلا جديد فيما طرح؛ حيث إنه ترسّم آثار السابقين وقصّ خطاهم فيما عرض وباراهم كتفا بكتف.
ويقول الشابي في ذات الموضوع في قصيدته المشهورة التي يسميها (حسن،2019م:175)64:
عذبةٌ أنتِ كالطفولة كالأحلام *** كاللحن كالصباح الجديد
كالسماء الضحوك كالليلة القمراء *** كالورد كابتسام الوليد
يا لها من وداعة وجمال *** وشباب منعّم أملود
يا لها من طهارة تبعث التقديــــــ *** ـــس في مهجة الشقي العنيد
يا لها رقة تكاد يرفّ الور *** دُ منها في الصخرة الجلمود
أي شيء تراك هل أنتِ (فِينيسُ) *** تهادت بين الورى من جديد (الشابي،2005م:60)65 .
التشبيهات الجريئة والأوصاف الشجاعة المبتكرة تدهشك في البداية، من ذلك: "عذبة كالطفولة، كالسماء وكابتسام الوليد" وكذا وصف السماء بالضحوك،، والليلة بالقمراء. كل هذه تقطر رقة وجمالا في سبك جيد وألفاظ متخيّرة وموسيقا عميقة هادئة، إلا أنها وعلى الرغم من كل ذلك لا تجعل الموضوع جديدا فليس فيه من شيء سوى وصف عذوبة وشباب ووداعة ورقة، وكل أولئك قد أكثر منهن السابقون وقتلوهن وصفا.
ويقول علي محمود طه المهندس:
زهراتك الحُمر التي أسلمتِها *** بيدي موَدّعةٍ يمينَ موَدِّعِ
لمّا وصلتُ إلى المصيف حملتُها *** كالطفل نام على ذراع المُرضِع
أمشي بها فوق الرمال كأنني *** أمشي بطيفٍ في الظلام مقنّع
مضمومة الورقات طيّ غلالةٍ *** وُسمتْ بطابع ذوقك المترفّع
محجوبة كأميرة شرقية *** في هودج أستاره لم تُرفَع
حتى إذا آويتها بعد السرى *** وخلعتُ عنها لبسةَ المتمتّع
هشّت لآنيتي وأشرقَ لونُها *** وتردّدت أنفاسها في مضجعي (طه،2004م:285)66.
فالمهندس غير مختلف عن صاحيبه أبي شادي والشابي في طرق الباب القديم، وسلوكهم مسلكا غير مختلف في موضوع "الحبّ".
ويقول إبراهيم ناجي:
ولما التقينا بعد نأيٍ وغُربةٍ *** شجِيّين فاضا من أسى وحنينِ
تسائلني عيناك عن سالف الهوى *** بقلبي وتستقصي قديمَ ديونِ
فقمتُ وقد ضجّ الهوى في جوانحي *** وأنّ من الكتمانِ أيّ أنينِ
يبُثّ فمي سرّ الهوى لمُقبّلٍ *** أجُود له بالروح غير ضنينِ
إذا كنتِ في شكّ سلي القُبلة التي أذاعتْ من الأسرارِ كلَّ دفينِ (ناجي،1980م:19)67 .
وهذه القصيدة أشبه بقصائد الغزل الجاهلي أو العباسي، وشبهها بالعباسي أقرب لما فيها من ذكر اللقاء بعد الفراق؛ وذلك يكاد يخلو منه الغزل الجاهلي من ناحية، ومن ناحية أخرى تجد المفردات والشكل العام تشبه القصيدة قصائد العصر الأموي.
فالشعراء على مرّ العصور قد قلبوا الغزل على جميع أوجهه وتناولوه من كل جوانبه، فلم يعد في الحاضر جديدٌ في موضوع الغزل. وربما اكتفى الشاعر في العصر الحديث بالتجديد في كيفية التناول وزوايا النظر.
بـــ/ الشعر الوجداني:
وهو الشعر الذي تبرز فيه ذاتيّة الشاعر سواء عبّر عن إحساساته ومشاعره الخاصرة، أو صوّر إحساسات ومشاعر الآخرين ولونها بخواطره وأفكاره" (الطباع،أبولّو،ع/2ص:17)68 .
وأما أهمّ دوافع هذا النوع من الشعر فـ"الألم والمعاناة ومرارة التجربة، مما يحمل الشاعر على البوح بما في نفسه من شعور بالألم، أو الوحدة أو الحبّ، أو غير ذلك من العواطف الصادقة التي تلهب القلب، وترقّق الحسّ، وتصفّي الذات. وهو ينطلق من قلب الشاعر ليتوجّه إلى قلبه موحّدا بين الذات والموضوع، محوّلا الشعر إلى النّبع والمصبّ في آن معا حين نجد الأغراض الغنائية الأخرى تنبع من قلب الشاعر لتنسكب في ذوات الآخرين، كالمدح الذي يحمل عاطفة الشاعر إلى الممدوح، والهجاء إلى المهجوّ، والغزل إلى الحبيب" (ناصيف،بدون:12)69 .
وفي قصيدة "الشاعر والنهر" لإبراهيم ناجي:
مكاني الهاديّ البعيدُ *** كُن لي مجيرا من الأنامْ
قد أمّكَ الهاربُ الطريدُ *** فآوِهِ أنتَ والظلامْ
****
ما حيلةُ الليل في عياءْ *** أنهَكنِي فتْكُهُ البطيءْ
أإِن خبا العُمُ في الفناء *** من فُحمَة الليل أستضيءْ؟
****
يا أيُّها النهر بي حسدْ *** لكلّ جارْ عليه تعطِفْ
أكُلّ راجٍ كما يودّ يروي *** ظِماهُ ويرتشِفْ؟
****
وكُلّ غادٍ له نصيبْ *** من مائِكَ الباردِ الشبمْ
ومن حبيبٍ إلى حبيبْ *** ترنُو حنانا وتبتسمْ! (ناجي،أبولّو،ع/1ص:243)70 .
تبدو حالة الاستسلام التّام، ويلوح جانب من وجه اليأس القاتم والشاعر يطلب الملاذ في مكانه الآمن البعيد، ولعلّ البعدُ بما فيه من إشارة للغربة متأصّل في شعر ناحي، طالما ذكره وأطال الوقوف على محرابه، وتبدو المأساة مجسّدة -في حديثه مع نفسه ذلك- في معانٍ من أمثال: (عدم حيلة الليل،
العياء المنهك البطيء الفتك، انطفاء العمر، الفناء، الاستضاءة في ظلام الليل الدامس، حسد ما يمتدّ إليه فضل النهر..).
"ويواكب هذا الإحساس المأساوي بالحياة –في شعره- كثرة تردّد مفهوم (الغربة)، ومشتقاتها اللغوية: كالغريب والمغترب ، ولوازمها الدلالية من معاني الوحدة والحزن والألم والشجن واليأس والحيرة، بما يوحي أن هذه الدنيا هجير كلها" (وادي،1994م:58)71 .
الخاتمة:
1- تُعدّ جماعة أبولو مدرسة شعرية رومانسية تجديدية تطبيقية ، و قد دعت إلى ضرورة الاهتمام بصياغة النصوص الشعرية ، كما شاركت في بناء صرح النهضة الأدبية الحديثة في مرحلة التجديد، بإرساء المقومات النقدية العملية للشعر العربي الحديث.
2- يمكن تلخيص أبرز مظاهر التجديد عندهم في: التجديد في البناء الفني الخارجي من ألفاظ و أساليب، ثم في البناء الداخلي ، بأن تكون القصيدة بنية حية متكاملة عنصرا وموضوعا، وكذا في الغاية الشعرية عبر مناصرة النهضة الفنية في عالم الشعر، والتجديد في استخدام الفنون الشعرية الجديدة، و في طريقة تناول الموضوعات الشعرية.
و بهذا يشير الباحث إلى أهمية ألوان التجديد التي مارسها شعراء أبولّو على مستوى الفن الشعري عموما، من الناحية التنظيرية، و أبدعوا فيها عمليّاً، وكذلك أهمية التجديد في بنية القصيدة العربية الحديثة ، و أصالة الرؤية الفنية و عنقها و اتساعها و شموليتها، والرسالة الشعرية التي يؤمنون بها وينادون إليها ، و يمارسونها تطبيقيًّا فيما أنتجوه من فنون الشعر.
و هذا التيار الذي يمثله شعراء جماعة أبولّو لا يزال حتى الآن يؤثر -بصورة أو بأخرى- في كثير من الشعراء المعاصرين، بل لا يزال كثير من الشعراء يمثلون الامتداد الخصب لهذا التيار، ويتغنون في حماه ويتأثرون بتعبيراته و إيحاءاته و رمزياته الفنية المبتكرة، ويلونون شعرهم بأصباغه وألوانه مع فارق صغير اقتضته الفترة الزمنية والأحداث التي نعيش في ظلالها، ونذكر على سبيل المثال من هؤلاء الشعراء: نازك الملائكة، وفدوى طوقان، ومحمد فهمي، وملَك عبد العزيز، وجليلة رضا، وفوزي العنتيل، وعبده بدوي، وكيلاني سند، وصالح شرنوبي، وسعد درويش، وإمام الصفطاوي، وغيرهم من الشعراء (الدسوقي،1960م:72)72 .
وهذا يكفي للإجابة عن تساؤل قد يطرح نفسه بصيغة: هل تطور التيار التجديدي الذي أصّل له – تنظيرا و تطبيقًا- شعراء جماعة أبولّو؟ وما مدى تأثّر المشهد الأدبي الحديث و الحركة الشعرية المعاصرة بالدعوة التجديدية " الأبولّويّة"-نسبة إلى أبولّو"-؟.
* عضو رابطة الأدب الحديث بالقاهرة/الكاميرون
1 - درويش،عشرة مداخل في قراءة الشعر:29. 2 - خليل حمد (2008)، مدرسة أبولّو الأدبية ودورها في تطور الأدب العربي الحديث، بحث منشور في مجلة روزاليوسف، العدد: 847، بتاريخ 28/04/2008م:14. 3 - العزب، محمد أحمد (1980م)، عن اللغة والأدب والنقد: رؤية تاريخية وفنية، القاهرة: طبعة دار المعارف:144 4 - أبو شادي، أحمد زكي (1926م)، الشفق الباكي: نظيم من شؤون وعواطف، طبعة المطبعة السلفية ومكتبتها:40 5 - العشماوي، محمد زكي (1980م)، الأدب وقيم الحياة المعاصرة، دار النهضة العربية:95-96 6 - بطرس، أنطونيوس (2005م)، الأدب: تعريفه، أنواعه، مذاهبه؛ طرابلس-لبنان: المؤسسة الحديثة للكتاب، الطبعة الأولى:314 7 - نشأت، كمال (1967م)، أبو شادي وحركة التجديد في الشعر العربي الحديث، دار الكاتب العربي:421 8 - مندور، محمد (1954م)، محاضرات في الشعر المصري بعد شوقي، القاهرة: معهد الدراسات العربية العالية:42 9 - ضيف،1957م:70 10 - هلال، أحمد (بدون التاريخ)، تطور الأدب الحديث في مصر، القاهرة: دار المعارف، الطبعة الثالثة:20 11 - بكري، إدريس (2012م)، شعر جماعة أبولّو وشعر ألفريد دي موسيه، دراسة نقدية مقارنة، بحث مقدم لنيل درجة الدكتوراه:242-252 12 - طه حسين، حديث الأربعاء:164 13- مجد خضر، مقال بعنوان: مظاهر التجديد في الشعر العربي، موقع موضوع، بتاريخ:3 أبريل 2016م.mawdoo3:com 14 -مستويات مفهوم حداثة الشعر عندجماعة أبولو، بحث منشور على موقع:acadimia، تاريخ الزيارة:13/5/2021. 15 - العزب، مرجع سبق ذكره:148-149 16 - صدمة الحداثة،بدون:116 17 - أبو شادي، مرجع سبق ذكره:1190 18 - خفاجي، محمد عبد المنعم، رائد الشعر الحديث، بدون:1/97 19 - أبو شادي، مرجع سبق ذكره:43 20 - المرجع السابق:42 21 - نظرية الشعر،بدون:489 22 - خفاجي، مرجع سبق ذكره:1/98 23 - الشابي وجبران،بدون:11-13 24 - الشابي وجبران،بدون:13 25 - الجوسي، مرجع سبق ذكره:243 26 - أغاني الحياة، بدون:129-133 27 - المرجع السابق:147-150 28 - المرجع السابق:165-166 29 - الشابي شاعر الحب،بدون:42-43 30 - الشابي شاعر الحب:61-69 31 - المرجع السابق:46 32 - أفاعي الفردوس،بدون:10 33 - أفاعي الفردوس،بدون:21 34 - طه، حسين (1978م)، تقليد وتجديد، بيروت-لبنان: دار العلم للملايين:38 35 - أبو شادي (1993م)، أغاني أبي شادي، القاهرة: مطبعة التعاون، الطبعة الأولى:22 36 - ديوان ناجي (بدون التاريخ)، قصيدة "الأطلال":275 37 - صالح، جودت (بدون)، ديوان حكاية قلب، القاهرة: دار الكتاب العربي للطباعة والنشر:103 38 - ناجي،مرجع سبق ذكره:89 39 - الصيرفي (1980م)، ديوان الصيرفي في الشروق، القاهرة: دار المعارف:31 40 - جودت، صالح (1963م)، الهمشري حياته وشعره، القاهرة: المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية:90 41 - التليسي، خليفة محمد (بدون التاريخ)، الشابي شاعر الحب والحياة:53 42 - السيدـ، طلعت صبح (2007م)، الشعر العربي الحديث، الطبعة الأولى:181 43 - عبد الله، محمد حسن (1981م)، الصورة والبناء الشعري، القاهرة: دار المعارف بمصر:18 44 - القط، عبد القادر (1981م)، الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر، مطبعة الشباب:408 45 - محمد، علي حسين (2006م)، الأدب العربي الحديث الرؤية والشكل، مكتبة الرشد، الطبعة السادسة:83 46 - طه، علي محمود (بدون)، ديوان زهر وخمر، قصيدة فلسفة وخيال، شركة فن الطباعة:341 47 - جودت،مرجع سبق ذكره:110 48 - عشري، علي زائد (1978م)، بناء القصيدة الحديثة، القاهرة: مكتبة دار العلوم:174 49 - السعدني، مصطفى (بدون)، التصوير الفني في شعر محمود حسن إسماعيل، منشأة المعارف – الإسكندرية:87 50 - محمود،بدون:98 51 - أبو شادي، زكي (بدون)، أنين ورنين، المطبعة السلفية:83 52 - محمود،مرجع سبق ذكره:116 53 - مصطفى، الجوزو (1988م)، نظريات الشعر عند العرب، بيروت: دار الطليعة النشر:99 54 - هيكل، أحمد (بدون التاريخ)، تطور الأدب الحديث في مصر، القاهرة: دار المعارف، الطبعة الثالثة:99 55 - محمود،مرجع سبق ذكره:46 56 - الصيرفي (1980م)، ديوان الصيرفي في الشروق، القاهرة: دار المعارف:60 57 - أبو شادي،مرجع سبق ذكره:53 58 - ناجي،مرجع سبق ذكره:176 59 - المرجع السابق:46 60 - أبو شادي،مرجع سبق ذكره:52 61 - عيرن،بدون:198 62 - القط،مرجع سبق ذكره:376 63 - أبو شادي، مرجع سبق ذكره:18 64 - حسن،2019م:175 65 - الشابي،ديوان الشابي:60 66 - طه، مرجع سبق ذكره:285 67 - ناجي،مرجع سبق ذكره:19 68 - الطباع،أبولّو،ع/2ص:17 69 - ناصيف،بدون:12 70 - ناجي،أبولّو،ع/1ص:243 71 - وادي، مرجع سبق ذكره:58 72 - الدسوقي، جماعة أبولو و أثرها في الشعر الحديث:72