تحركات القنصليه الامريكيه في البصره بعد ثورة ١٤ / تموز مباشرة
عربي الخميسي
تحركات القنصليه الامريكيه في البصره بعد ثورة ١٤ / تموز مباشرة
القسم الاول
احداث مهمة وقعت هنا وهناك على طول البلاد وعرضها، ذات صله بثورة 14 /تموز سنة 1958 فأما هي صفحة من صفحاتها او كنتيجة لها ، بعض منها يعرفها العراقيون ، والبعض الاخر لم يعلم بها الا من كان من المتعايشين معها ،
او كان في موقع المسؤوليه ، وان تحركات وانشطة القنصليه الامريكيه في
البصره بعد قيام الثورة مباشرة ، احدى تلك الوقائع ولأهمية الموضوع
تأريخيا ، وبمناسبة مرور الذكرى الخمسين على هذه الثورة المجيده في 14 /
تموز 2008 ، ومن منطلق معايشتي احداث تلك الفتره مكانا وزمانا ، ولأني
قطعت عهدا على نفسي لقرائي الكرام في مقالتي السابقه الموسومه ( ليلة
القبض على العقيد الركن عبد الغني الراوي ) بأن استمر بمقالاتي لكشف
ماحدث في تلك الحقبه الزمنية وذاك المكان ( لواء البصره ) وعليه اليكم ما
وعدتكم به ارجو لكم الاستمتاع.
ثبت يقينا ان ثورة تموز باغتت الحكومه الانكليزيه والامريكيه وكل دول
العالم، ولأهمية العراق والمنطقه اصبح الوضع الجديد لدولة العراق
الجمهوري يشكل تهديدا لأنظمة بلدان الجوار والمنطقه باكملها ، مما يدعو
تلك الدول محاولة ؤد الجمهورية الاولى وهي في مهدها ، وقبل ان تكتمل
ملامح صيرورتها الاولى ، وحيث ان قادة الثورة كانوا مسبقا يتوجسون الشر
من هاتين الدولتين ، ومن تحركات عناصرها وجواسيسها والتابعين لها لذا
اصبح الامر يقلقهم كثيرا ويشعرهم دوما بالخطر الآتي ، خاصة وان القوات
البريطانية والامريكيه اخذت بالتحرك والتحشد على مقربه من الحدود
العراقيه .
وفي تلك الفتره الحرجه والاجواء المشحونه ، طلبت السفاره الامريكيه
ببغداد من الحكومه العراقيه بالسماح للقنصل الامريكي بالبصره بالقيام
بزيارة المستشفى الامريكي بالعماره ، ولم تمض بعد على الثوره سوى اسبوعين
فقط ، بحجة تفقد احوال الرعايا الامريكيين العاملين بالمستشفى المذكور .
ولكي اضع القارئ الكريم على اطلاع عن كيفية التعامل مع هذا الواجب ؟ وكيف
تم انجازه ؟ ومن قام به ؟ ارتأيت ان اعرض المقدمة التاليه لكي تتضح
الصوره :
بتاريخ 18 /تموز سنة 1958 التحقت بمنصبي الجديد في موقع البصره العسكري
بعنوان ضابط ركن حركات ومشرف على نشاط الاستخبارات العسكريه ، حيث ان
الرئيس عبد الكريم الفريح ضابط استخبارات الموقع السابق كان قد صدر الامر
بنقله وهو لم ينفك بعد ، كما ان امر الموقع السابق وهو نفسه امر اللواء
المشاة الخامس عشر الزعيم الركن احمد محمد يحيى قد احيل على التقاعد ،
وقد انعكف بداره ولم يخرج منها حتى يوم سفره الى بغداد.. وعلمنا فيما بعد
بانه واجه الزعيم عبد الكريم قاسم وعلى اثرها جرى تكليفه بمنصب وزارة
الداخليه . وعين بدلا عنه العقيد عبد المجيدعلي امرا لموقع البصره
العسكري ، كما صدر امر بتعيين الزعيم الركن عبدالرزاق عبد الوهاب متصرفا
للواء البصره ، وصدر امر اخر باعادة الضابط المتقاعد الرئيس الاول الركن
عامر حسك الى الجيش ، وتعينه مديرا لشرطة لواء البصره ثم منحه قدما لمدة
سنتين واصبح برتبة عقيد ركن .
وفي تلك الايام الاولى بعد قيام الثوره كما بينت اعلاه ، وصلنا امرا من
الحاكم العسكري العام وكان معنونا تحديدا الى كل من متصرف اللواء ، وامر
الموقع يقضي بوجوب اتخاذ الترتيبات اللازمه من كل من المتصرفيه ، وامرية
الموقع والتعاون فيما بينهما لتسهيل عملية زيارة القنصل الامريكي الى
العماره ، وبتامين الحمايه والسلامه له ومرافقيه ذهابا وايابا ، ومحاولة
معرفة نواياه بسرية تامه دون الفات النظر ، وتزويد الحاكم العسكري العام
بتقرير مفصل لهذه الزيارة حال انتهائها .
وعلى الفورعقد اجتماع حضره كل من متصرف اللواء الزعيم الركن عبدالرزاق
عبدالوهاب ، والعقيد الركن عامر حسك مديرشرطة اللواء ، وعن الجانب
العسكري حضره كل من العقيد مجيد علي امر موقع البصره العسكري وكاتب هذه
السطور الرئيس الركن عربي الخميسي بصفتي ضابط ركن الحركات الثالث والمشرف
على الاستخبارات العسكريه ، وجرى النقاش حول كيفية تنفيذ العمليه وفق
التوجيهات الوارده بامر الحاكم العسكري العام الزعيم الركن احمد صالح
العبدي وتوصل الحاضرون الى مايلي : ..
تقوم الشرطه المحليه للواء ، بتامين الحماية اللازمه للقنصل الامريكي
ومرافقيه ذهابا وايابا بشكل عادي ، وكما كانت تتم في الحالات السابقه قبل
الثورة ، حتى لا يثير الشك لدى الطرف الامريكي حينما تكون الحمايه من جهة
عسكريه ، وعليه يجب ان تتم بواسطة سيارات الشرطه المسلحه ، على ان تكون
بقيادة احد الضباط العسكريين ممن له اطلاع بامورالاستخبارات وله المام
مناسب باللغه الانكليزيه، ولكي يمكنه تنفيذ الفقرات المطلوبه في الامر
التي اهمها معرفة نوايا وسبب الحاح الامريكان بطلب الزياره ... مع التصرف
بحكمه وتعقل ! وقد اجمع الحاضرون على تكليفي شخصيا بالقيام بهذه المهمه
الصعبه والخطره ايضا ، وصدر لي امرا بهذا الشأن مزودا ببعض التعليمات ،
منها باختصار شديد حرية التصرف باتخاذ التدابيرالعسكريه ، والتعاون مع
الجهات العسكريه الموجوده بمدينة العماره ، وارسال برقيه او برقيات من
هناك ببيان الموقف كلما قضت الحاجه ، لأننا حتى تلك اللحظه لا نملك اجهزة
المخابره اللاسلكيه المحموله ذات المدىالبعيد، ومن ثم تقديم تقرير مفصل
بعد العوده مباشرة .
وفي صباح اليوم المعين للزيارة ذهبت برفقة امر الموقع الى مقر متصرفية
اللواء الكائن بالعشار ، ودخلنا سوية غرفة متصرف اللواء ، وكان المتصرف
ومديرشرطة اللواء حاضرين ، فجلب لي مدير الشرطه بدلة زي الشرطه الرسمي
كما سبق واتفق عليه ، فخلعت ملابسي العسكريه وارتديت ملابس الشرطه بصفة
عريف شرطه احمل رقم 34 شرطة البصره ... وفي الوقت المعين خرج الجميع امام
باب المتصرفيه ، وتقدم مدير الشرطه باتجاه سيارتين للشرطه مسلحتين كانتا
مركونتين امام البنايه ، وامر افرادها من الشرطه بالتجمع ، وقال لهم وهو
يشير بيده علي حيث كنت اقف بجانبه ، ان هذا عريف حسين هو آمركم وعليكم
اطاعته وتنفيذ ما يؤمركم به .
كانت السيارتان من نوع (لاندروفر) الاولى ، يسوقها شرطي برتبة نائب عريف
وبقربه يجلس شرطي برتبة عريف ، وفي خلف قمارة السياره نصبت رشاشه من نوع
برين على ركيزتها وخلف الرشاشه يقف راميها شرطي برتبة عريف ايضا ،
وبجانبه شرطين اخرين مسلحين ببنادق اما السياره الثانيه ، فهي كما في
الاولى ناقصة عريف شرطه وهو الذي كنت قد حليَت محله ويعني ذلك ، ان كل
سيارة كانت تضم خمسة من المسلحين اذ يصبح مجموعنا الكلي عشرة افراد.
كانت مهمتي كما قلت صعبة ومعرضه للاخطاروتستوجب الحذرالشديد والتصرف
بحكمه وتأني ، لأسباب كثيره منها واولها الحاله الامنية، بسبب استمرار
المظاهرات والتجمعات الجماهيريه ، والتي كانت تردد الهتافات تمجيدا
بالثوره وقادتها ، وتدين الاستعمار المتمثل بالدولتين البريطانيه
والامريكيه وموقفهما من الثورة ، وهي بحالة الهيجان غير المنضبط لاسيما
من الناس البسطاء ومن العمال والفلاحين والطلاب ، والتي عمت جميع نواحي
لواء البصره كما كانت تشير اليها التقارير اليوميه ، وكذلك الحالة غير
الامنه لطريق العام بصره- العماره ..
فاول ما قمت به هو شرح الواجبات الملقاة على عاتقنا نحن افراد شرطة
الحمايه ، وواجب كل سياره وكل فرد وكيفية التصرف .
وبعد فتره قصيره وصلت سيارة القنصل ، ذات اللون الاسود امريكيه الصنع
رافعه العلم الامريكي على ناصيتها الاماميه ، مارة من امام المتصرفيه ،
جالسا فيها وعلى مقعدها الخلفي القنصل فقط ، وكان يقوم بقيادتها شخص مدني
، وعندها تحرك الرتل تتقدمه السيارة المسلحه الاولى ، وخلفها سيارة
القنصل ، ومن ثم السياره الثانيه التي كنت انا فيها ، سالكين طريق البصره
العمارة العام ، والمتجه صوب جسر كرمه علي ، مارقين من امام معسكر محمد
القاسم الذي كان موقعه على قرب من محلة الجمهوريه ، وبعد مسيرة حوالي اقل
من نصف ساعة وصلنا الى جسر ( كرمة علي ) ، والذي يبلغ طوله حوالي مائتين
مترا تقريبا مع مقارباته ، ولا يسمح بالمرور الا باتجاه واحد فقط ، كان
الجسر عباره عن عدد من الطوافات (الدوب ) مربوطه مع بعضها البعض، وعليها
رصفت الواح من الخشب بعرض محدد لا يسمح بمرور الا لسيارة واحده ، مع وجود رصيف ضيق للماره من المشاة على الجانبين .
ومن سؤ الصدف في تلك اللحظه ، ان اتجاه السير كان للقادم نحوالجنوب
باتجاه البصره ، وكان علينا الوقوف على جانب الطريق لنسمح بمرورالعربات
القادمه من ذاك الصوب، وبانتظار العلم الاخضر اشارة المرور الذي كان
يرفعه منظم السير احد افراد الشرطه المتواجد بالجانب الاخر من النهر ،
وخلال فترة وقوفنا التي طالت نسبيا ، تجمع حولنا بعض الافراد وشيئا فشيئا
كثرعددهم ، واقترب احدهم من شباك سيارة القنصل وسمعته يقول (اعرفك انت
انكريزي جليب ابن جليب ) وخلال دقيقتين فقط رأيت الناس تتجمع وتبدأ
بالهتافات الحماسيه حولنا ، وحالا ترجلت من السياره وامرت افراد الشرطه
رماة الرشاشات بالتهئ ، والافراد المسلحين الاخرين بالترجل والنزول فورا
من السيارات والاحاطه بسيارة القنصل ، الا ان الجماهير ازدادت وازداد
ضغطهم علينا ومن حولنا ، وكان اغلبهم كما قلت من الفلاحين ، وبدأنا نصد
الناس ومنعهم من التقرب من السياره الا ان الموقف كان حرجا جدا بسبب
الكثرة العدديه ، مما ادى ذلك الى قطع سير المركبات القادمه من الجسر
نحونا ، واضحى الوضع اكثر صعوبه وتوترت الحاله ، ولكي افتح الطريق كان
لابد من اتخاذ قرارا معين ، الا وهو ابعاد الجماهيرعن الشارع، ولما لم
تستجب الجماهير لطلبي ورجائي فقد امرت رامي الرشاشه الثانيه برمي رشقة
واحده ( صليه ) من الاطلاقات في الهواء ، وحال تنفيذها تراجعت الجماهير
الى الوراء ، وانفتح الطريق ، فتقدمت المركبات للخروج من الجسر ، مما
اتاحت لنا فرصة رؤية اشارة العبور ، وحالا اخذنا اماكننا داخل السيارات ،
وانطلقنا بسرعه داخل الجسر ، وقد انفرجت الحاله المتأزمه والى هنا انتهى
الامر بسلام
وربما من سائل يسال كيف كان حال القنصل خلال الفتره السابقه ؟ الجواب ان
القنصل انذاك كان داخل سيارته ، وان شبابيك نوافذها كانت مغلقه ، الا انه
كان مضطربا بعض الشيئ وهو يراقب الوضع عن كثب .
وبعد مسيرة حوالي الساعه والنصف ، وصلنا مدينة العماره ، واتجه الركب
مباشرة نحو المستشفى الامريكي ، الكائن على ضفة نهر دجله اليسرى في الجهة
الجنوبية من المدينه ، وعند الباب كانت هناك نقطة حراسة من الجيش العراقي
، والتي اوقفتنا عند الباب للسؤال، وخلال لحظه فتح باب المستشفى ، واؤلجت
السيارات داخله ،وانفردت سيارة القنصل بدخول بوابة دار سكن مدير المستشفى
،التي هي من ضمن المشتملات الملحقه بالمستشفى ذاته .
من الصدف ايضا ، ان يكون امر فصيل حراسة المستشفى ضابط برتبة ملازم اول ،
كان متواجدا لحظة دخولنا المستشفى ، وبكبرياء وتعالي وعنف اخذ هذا
الملازم الاول يصدر لنا الاوامر ، ويستهين بنا كما هي حالة نظرة الجيش
للشرطه آنذاك ، واستمر بتدخله في شئوننا دون وجه حق ، مما يتعارض
وواجباتنا كقوه شرطه لدينا واجبات واوامر نقوم بتنفيذها لا علاقه له بها
لا من قريب ولا من بعيد ، وهنا تذكرت المثل القائل ( رب ضاره نافعه ) ،
عندما خطر ببالي امر يجب ان اقوم به من خلال هذا الضابط ، ففي ذلك الوقت
كنت بحاجه ماسة للذهاب الى امرية موقع العماره العسكري كما تقتضي الحاله
، ومن ثم ارسال برقيه الى امرية موقع البصره ، لأشعارها بسلامة الوصول،
وحيث اني اعرف هذا الضابط معرفة جيده ، فقد حاولت في البدايه الابتعاد
عنه كي لا يكشف هويتي ، ويفضح امري ، ويعرقل تأدية واجباتي الاخرى المكلف
بها ، وفي هذه اللحظه قررت مكاشفته بالامر، وقلت لنفسي لماذا لا اصارحه
بكشف شخصيتي له ، وان استفيد منه للوصول الى امرية الموقع ؟ وفعلا
انتظرته حتى ابتعد بعض الشيئ عني ، فذهبت اليه وناديته باسمه الصريح ،
قلت له (ملازم خالد طارق ؟ ولما التفت صوبي ، قلت هل تعرفني ؟ ولم اعطه
المجال للرد علي ، وواصلت الحديث معه قائلا .. انا فلان هل تتذكرني ؟
ولشدة المفاجئه احتضنني وقبلني فابتعدت عنه ، وقلت له انا العريف حسين..
نعم انا العريف حسين ! ارجوك ان تنتبه وتساعدني بمهمتي !! رد علي قائلا
اهلا وسهلا بالعريف حسين ! وانت اليوم ضيفي العزيز ( وتستحق ( ذبيحه )
اذبحها لخاطرك واسوي عزيمه على شرفك ) .. قلت اخي العزيز دعنا من العزيمه
واريد منك ان توصلني حالا الى مقر الموقع، وسنتكلم بالطريق ولا تنسى انا
العريف حسين.
كنت اعرف هذا الضابط الملازم الاول خالد طارق وهو من اهالي مدينة العماره
الكرام ، يوم التحق بمدرسة المشاة العراقيه بدورة تدريبيه على استخدام
الاسلحه الحديثه ، وكنت انا شخصيا معلما لهذه الدوره في بداية سنة 1955
(اتمنى ان يكون هذا الرجل الطيب على قيد الحياة مع التمنيات له بالصحه
والعافيه والعمر المديد )
كان علي ان اقوم ببعض الاجراءآت ذات العلاقه بالواجبات المكلف بها ،
وترتيب امور اخرى كما خططت لها ، وعليه اصدرت امري الى سائقي السيارات
بالذهاب الى مرآئب سيارات مديرية شرطه اللواء ، وللافراد الباقين
الاستراحه حتى يحين وقت الحضور ثانية الى المستشفى بالساعه الثامنه من
صباح الغد .
-------------------
تحركات القنصليه الامريكيه في البصره بعد ثورة 14/ تموز مباشرة
عربي الخميسي
القسم الثاني
اصطحبني الملازم الاول خالد طارق الى مقر امرية موقع العماره العسكري
الكائن شمال المدينة في منطقة تقاطع نهر المشرح بنهر دجله ، والتقينا
بالعقيد ... ( لم اتذكر اسمه الان ) آمرالموقع فرحب بي هذا الرجل كثيرا ،
وعن طريقه ارسلت برقية مفصله واشعار الى آمرية موقع البصره بسلامة الوصول
، مع شرح الموقف والمستجدات وكانت الساعه حوالي الثانية عشره ظهر ذلك
اليوم ثم وجه لي امر موقع العماره دعوة لتناول العشاء معه في نادي الضباط
، وكلف الملازم الاول خالد طارق بالتفرغ لآبداء العون اللازم لتنفيذ
مهمتي .
رجعت الى المستشفى وانا مشغول الفكر كيف وباية طريقه يمكنني معرفة سر
زيارة القنصل؟ واية امور اخرى كانت ضمن المهمات المكلف بها ؟
عند باب المستشفى كانت هناك غرفه صغيره على الجانب الايسر منه ، ورايت
تواجد احد الاشخاص بداخلها ، ومن محتوياتها استنتجت ان صاحبها جعل منها
مكان سكناه كما يظهر، فاقتربت منه وسلمت عليه فخرج لأستقبالي والترحيب بي
، وكان شابا بعمر حوالي الثلاثين وقد تبين لي انه معوق (اعرج ) جراء حادث
حصل له ايام الطفوله ، فجلست واياه على مسطبه خشبيه كانت امام الغرفه ،
وخلال تناول الشاي الذي اعده خصيصا لي بدأت استدرجه شيئا فشيئا عن الثورة
وقادتها والوضع العراقي الجديد ، وكان هذا الموضوع هو موضوع الساعه آنذاك
، فابدى هذا الشاب تعاطفا وحماسا شديدين ، واظهر حسا وطنيا مخلصا حول ما
اطرحه من افكار ، وقد طال جلوسي معه متعمدا، ونحن الاثنان نتناول الحديث
الودي الهادئ الشفاف دون تعصب وبكل سذاجه اوشعور بكلفة الحوار بيننا
اثناء الحديث المتبادل ، حتى شعرت انه قد اطمأن لي تماما ووثق بي ، ومن
خلال الاسئله واجوبتها عرفت انه يشتغل بصفته حارسا ثابتا على بوابة
المستشفى ، وقد مضى على عمله هذا مدة تزيد عن خمسة سنوات ، وهو على اطلاع
كلي وملم تمام الالمام بما يخص المستشفى وادارته واشخاصه وزبائنه وطبيعة
اعماله الطبية ، وكان اهم شيئ عندي هو محاولة معرفة العلاقات التي تخص
الامور غير الطبيه بين ادارة المستشفى وجماهير اهل العمارة ، ان كانت
هناك علاقات ربما لها صله بزيارة القنصل.
استمر الحوار بيننا اكثر من اربعة ساعات ، وفي رأس كل ساعه كنت اتظاهر
بالذهاب الى الحمام لأسجل باختصار شديد خلاصة ما حصلته من معلومات او
بينات ، وحيث قد مضى عليها خمسون سنة ، وبسبب تقدم العمر يتعذرعلي
ادراجها بشكل كامل في الوقت الحاضر، الا ان اخطر ما افاد به ذلك الحارس
ان المستشفى كان يعطي معونات (كما يسميها ) ماليه او رواتب شهريه الى
اشخاص من غير المرضى ، لم يوضح لي ماهية تلك المساعدات ومن هم اؤلئك
الاشخاص ، وما هي صفاتهم او اسماؤهم اوعلاقاتهم مع المستشفى ؟ رغم اسألتي
المتكرره بقدر ما افاد به انهم اصدقاء للمستشفى وبعضهم محتاجين على حد
قوله ، اضافة الى تقديم الخدمات الطيبه لهم ولعوائلهم مجانا .
وخلال هذه الفتره خرج سائق سيارة القنصل الذي كان يرافق الثاني من دارسكن
مدير المستشفى ، وجلس معنا على المسطبه الخشبيه بعد دعوته من قبل الحارس
ليشاركنا شرب الشاي ، ومن ثم بادرني بالسؤال حول ما حدث لنا عند جسر كرمة
علي ، فاجبته بالملابسات التي رافقت الحاله كما شاهدها هو ، وسالته بدوري
عن انطباع القنصل في ذلك الوقت الحرج ؟ فقال ان القنصل كان يراقب الحاله
عن كثب ، وقد شعر بحراجة الموقف ، وسالته ثانية هل انتم مسلحين تحسبا
للطوارئ ؟ اجابني نعم ان القنصل فقط كان يحمل مسدسا شخصيا .. ثم اجابني
على اسئلتي له من اي بلده انت ؟ وهل تتكلم الانكليزيه ؟ وما هو تحصيلك
العلمي ؟ وما اسمك ؟ الى آخره من الاسئله .. قال لي انا فلان ابن فلان من
اهالي البصره .. اقدر اتفاهم باللغه الانكليزيه الى حد ما .. تعلمتها عن
طريق السمع والممارسه بشكل بسيط .. وانا خريج المتوسطه .. وغيرها من
الاجوبه عرفت من خلالها بانه ينتمي للاخوة الاكراد الافيليه ، وقد مضى
عليه بوظيفته في القنصليه بالبصره قبل كذا سنة . وبقينا نتحدث نحن
الثلاثه وحتى الساعه السابعه مساء حين حضرالملازم الاول خالد طارق
ليسطحبني الى نادي الادارة المحلية بدلا من نادي الضباط كما كان مقررا ،
معللا ذلك برغبة متصرف اللواء السيد رشيد.... للتعرف علي ، فقلت له لا
مانع لدي وذهبنا مباشرة الى هناك ورايت ثلاثة اشخاص جالسين اعرف منهم امر
الموقع فقط ، اما الاثنان الاخران فاحدهما كان متصرف اللواء المدعو رشيد
.... والثاني ضياء شكاره مدير تسوية اراضي العماره كما قدمهما لي
امرالموقع ،
ومن خلال الحديث عرفت ان متصرف اللواء السيد رشيد .... الذي لا اتذكر اسم
ابيه الان هو من اهالي قضاء المسيب ، وكان احد الضباط المشتركين بحركة
رشيدعالي الكيلاني سنة 1941 وقد تعرض للاعتقال في حينه ، واحيل على
التقاعد فاعادته ثورة 14 / تموز بوظيفه مدنيه تكريما له كما قال لي ، اما
السيد ضياء شكاره مدير تسويه اراضي العماره فكان كما يظهر خائفا من
الثورة ولا اعرف سبب خوفه ، وبعد تناول العشاء على شرف مائدة المتصرف
طلبت منهم السماح لي بالانصراف ، فنهضت مبكرا لأتمام ما خططته لتنفيذ
مهمتي المكلف بها ،
فعدت فعلا للمستشفى بحوالي الساعه الثامنه ، وجلست ثانية مع الحارس
والسائق على المسطبه نتحدث بامور شتى ، الا اني كنت احاول جرهم للحديث عن
الثورة والوطنية والاخلاص والاستعمارالاجنبي وغيرها ، من مواضيع ومفاهيم
سياسيه يتداولها الشارع العراقي آنذاك ، و كلها كانت تؤلف محاور أحاديثنا
!!
وعند الساعه العاشرة سألت الحارس عن مكان ملائم لقضاء هذه الليله ، وصار
الراي كما خططت له ان انام على سرير فحص المرضى بغرفة الطبيب مدير
المستشفى حيث تتوفر بها مروحه سقفيه ، وكان الجو حارآنذاك ففتح الحارس
الغرفه واعطاني المفاتيح وخرج ، وكانت الغرفه تبعد عن غرفة الحارس بحوالي
ثلاثين مترا ، وانتظرته حتى نام وبحوالي الساعه الحادية عشرة قمت من نومي
، واخذت احاول بفتح خزانات ومكتبة الطبيب ومجارير منضدته ، كما حاولت ان
افتح خزانه حديديه (قاصة حديديه ) كانت داخل الغرفه ولم افلح ، وقد باشرت
بقراءة بعض الاوراق وجدتها بالاضابير مكتوبة باللغه الانكليزيه وبعضها
بالعربيه ، فقمت باخذ بعضها بعد الفرز وكانت تحتوي على وثائق قد تبدو
مهمه ، وربما تشير الى بعض المعلومات ذات الطابع السري منها على سبيل
المثال اسماء اشخاص من اهالي مدينة العماره ومن شيوخ العشائر المحيطه بها
، دون ان اعرف سر هذه العلاقات وسببها فقط مجرد قوائم بالاسماء حسب
الحروف الابجديه .
وفي صباح اليوم التالي وحوالي الساعه الثامنه خرج القنصل الامريكي من دار
مدير المستشفى ، وتحرك ركبنا على نفس الطريق وعلى غرار نمط مجيئنا ، وهو
ان تتقدم سيارة القنصل احدى سيارتي الشرطه المسلحة ، والثانية التي اقلها
تسير خلفها ، وبعد مسيرة حوالي الساعتين اذ كانت سرعة سيرنا بطيئه نسبيا
حتى وصلنا مدينة البصره دون اي عائق او حادث يذكر، فتوجهنا مباشرة الى
مقر القنصليه وبعد دخول القنصل البنايه عدنا الى مقرمتصرفية البصره ، وقد
انتهى كل شيئ بسلام ولم يبق سوى كتابة التقرير ، الذي تضمن فقرتين الاولى
وصف حالة الشارع العراقي ودرجة فهم الجماهير للثوره واهدافها والثانية
كانت التنويه ولو من باب الاستنتاج عن العلاقه العضويه بين ادارة
المستشفى وبين اؤلئك الافراد المدنيين من العامة وفقا للقوائم التي حظيت
بها ، وكان التقرير مسهب ومفصل ، وقد احتوى على كل كلمة افاد بها الحارس
وسائق القنصل كشاهدي عدول ، ارسل هذا التقرير الى مديرية الاستخبارات
العسكريه وهي الجهة المسؤوله عن مثل هكذا امور ، مع اعلام الحاكم العسكري
العام بها
عربي الخميسي
ضابط عراقي متقاعد
يتبع.......