مباريات بطولة كأس العالم رياضة.. ولكن بطعم السياسة
قاسم محمد داود
مباريات بطولة كأس العالم رياضة.. ولكن بطعم السياسة
تجري حالياً في قطر مباريات النسخة الثانية والعشرون من بطولة كأس العالم لكرة القدم التي تقام كل أربع سنوات. وكالعادة لا تغيب السياسة عن كرة القدم ودوماً تظل دورات كأس العالم ساحات للتوظيف السياسي.
قبل 5 آلاف سنة كانت البدايات المبكرة لكرة القدم مع الصينين الأوائل، حيث كان البهلوانات يراقصون الكرة بأقدامهم، وبعد قرون عرفها الرومان، لعبة شائكة وجدلية او كما وصفها الكاتب الأوروغوياني إدواردو غاليانو بأنها: "ليست إلا رحلة حزينة من المتعة إلى الواجب مدفوع الثمن". بفضل جماهيريتها صارت قصة أخرى، حيث تحولت إلى أحد اهم محددات الشخصية الوطنية ومحفزات الانتماء بهتافات الأنصار والعشاق الذين يذوبون مع المستديرة في حالة من الهيام وهم يتابعون اخبارها.
مرت اللعبة بأطوار كثيرة، وهناك العديد من الدراسات والكتب والأبحاث في فلسفتها وتأثيرها وتحليل جماهيريتها والأطوار الصعبة التي مرت بها، خصوصاً مع الرومان؛ إذ في عام 1314 أصدر الملك إدواردو الثاني وثيقة ملكية تدين اللعبة الصاخبة التي يمارسها الرعاع والدهماء، إلى بعض المتشددين في الفكر الديني بمختلف توجهاته، وبالرغم من ذلك فقد دخلت اللعبة مجال السياسة والأيديولوجيا.
وفي تاريخ كرة القدم وخصوصاً مباريات بطولة كأس العالم (المونديال) كانت هناك لقاءات كروية بطعم السياسة سنذكر بعض منها هنا:
1 ــ فرنسا وإيطاليا الفاشية
في 12 حزيران 1938 وفي أجواء سياسية عالمية متوترة للغاية وظل الفاشية والنازية يخيم على أوروبا، استضافت فرنسا الدورة الثالثة من بطولة كأس العالم في كرة القدم، تواجهت إيطاليا التي كانت تحت حكم موسوليني الفاشي وفرنسا في ربع النهائي على ملعب أولمبيك دي كولومب في باريس وكانت النتيجة فوز إيطاليا على فرنسا بثلاثة أهداف مقابل هدف واحد وكان أعضاء الفريق الإيطالي يرتدون قمصاناً سوداء تشبه تلك التي يرتديها افراد ميليشيا نظام موسوليني، ولم يكتفوا بذلك بل قاموا بتوجيه التحية الفاشية إلى 60 ألف متفرج. فرد المتفرجون حينها بصافرات الاستهجان أثناء ترديد النشيد الوطني الإيطالي، كانت كرة القدم من وجهة نظر الـ "الدوتشي" (لقب موسوليني)، وسيلة لإظهار تفوق الأيدولوجية الفاشية. ويبدوا أن هذا كان دافعاً للمنتخب الإيطالي الـ "ناتسيونالي" ليذهب بعيداً في المنافسات الكروية حتى ظفر بلقبه التاريخي الثاني توالياً في 1934 و1938.
2 ــ مواجهة الألمانيتين:
هامبورغ 22 حزيران 1974 وعلى ملعب "فولكس بارك" الذي امتلأت مدرجاته بالجماهير، تواجه الأشقاء الأعداء من المانيا الغربية والشرقية، وكانت الحرب الباردة (مصطلح يستخدم لوصف حالة الصراع والتوتر والتنافس التي كانت توجد بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وحلفائهم من فترة منتصف الأربعينات حتى أوائل التسعينات)، بين المعسكرين الرأسمالي الغربي والشيوعي مستعرة الأوار، كانت تلك المباراة تجسيداً للتوتر بين الطرفين، لكن ذلك لم يعني ضغوطاً مرتقبة، أذ أن الطرفين كانا في مسار تطبيع العلاقات منذ ان وقعا معاهدة اعتراف متبادل في عام 1972. انتهت المباراة المصنفة في دائرة الخطر من دون عوائق أو مشاكل وفازت ألمانيا الشرقية رغم كل الصعاب بهدف سجله يورغن شبارفاسر لاعب نادي ماغديبورغ والمنتخب الألماني الشرقي، في ربع الساعة الأخير من المباراة، وبقي في الذاكرة إلى الأبد. لكن رغم ذلك بقيت ألمانيا الغربية في المنافسات وظفرت بالمسابقة التي استضافتها للفترة من 13 حزيران إلى 7 تموز 1974، محققة ثاني القابها في مسابقات كأس العالم لكرة القدم.
3 ــ الأرجنتين وإنكلترا
بعد مرور أربع سنوات على حرب غير معلنة بين بريطانيا والأرجنتين حول عائدية جزر فوكلاند التي تقع في جنوب المحيط الأطلسي، اندلعت في 2 نيسان واستمرت إلى 14 حزيران عام 1982 وخلفت 649 قتيلاً أرجنتينياً و255 بريطانياً، كانت الأجواء متوترة للغاية بين المنتخبين اللذين قطعت دولتاهما العلاقات الدبلوماسية في العام 1982،والتقيا في مباريات كأس العالم التي أقيمت في المكسيك للفترة من 31 مايس حتى 29 حزيران 1986 وفازت ببطولتها الأرجنتين، وكان المشجعون الأرجنتينين في كل مباراة من مباريات المسابقة يرفعون لافتات تقول "جزر فوكلاند أرجنتينية" وينشدون أغاني قومية تدعو إلى قتل الإنكليز، وأخيراً وعلى هامش ربع النهائي من المسابقة، اندلعت مواجهات بين جماهير المنتخبين، ما اسفر عن عشرات الإصابات التي تراوحت بين طفيفة وخطرة، فازت الأرجنتين بفضل دييغو ماردونا إلى حد كبير، الذي سجل هدفين حينها وأقر الأسطورة الأرجنتيني الراحل بعد ذلك "لقد كانت مباراة نهائية بالنسبة لنا. لم يكن الأمر يتعلق بالفوز بمباراة، بل بإقصاء الإنكليز".
4 ــ إيران والولايات المتحدة الأمريكية
كما حدث في كأس العالم 22 الحالية التي تقام في قطر هذا العام فقد حدث عام 1998 عندما وجدت إيران نفسها خلال مشاركتها الثانية في كأس العالم ضمن مجموعة عدوتها اللدود، الولايات المتحدة، وكانت العلاقات الدبلوماسية مقطوعة بين البلدين منذ عام 1979 أثر عملية احتجاز رهائن السفارة الأمريكية بطهران في اعقاب ثورة الخميني على حكم الشاه في نفس العام. أقيمت تلك المباراة في مدينة ليون الفرنسية 21 حزيران 1998، ومثلت فرصة للتهدئة، وبعد أداء النشيدين الوطنيين، تصافح اللاعبون الأميركيون مع خصومهم وقدموا لهم تذكارات، فرد الإيرانيون التحية بباقات ورود بيضاء، قبل أن يلتقط المنتخبان صورة جماعية. فاز الإيرانيون حينها (2ــ 1) مسجلين أول انتصاراتهم في مباريات كأس العالم.
5 ــ سويسرا وصربيا
كالينينغراد المدينة الروسية وفي 22 حزيران عام 2018 واجه المنتخب الصربي المنتخب السويسري في دورة كأس العالم الحادية والعشرون التي استضافتها روسيا في الفترة بين 14 حزيران ولغاية 15 تموز وفازت فرنسا ببطولتها، وكان المنتخب السويسري يضم في صفوفه العديد من اللاعبين من أصول كوسوفيه وكما هو معلوم فإن كوسوفو إقليم سابق في صربيا (يوغسلافيا) يسكنه بشكل رئيسي الألبان، وبعد عشر سنوات من الصراع الذي كان آخر حرب أدت إلى تفكيك يوغسلافيا السابقة، أعلنت كوسوفو استقلالها في العام 2008، وهو مالم تعترف به صربيا، لتسوء العلاقات بين بلغراد وبريشتينا. في تلك المباراة سجل اللاعب غرانيت تشاكا واللاعب جيردان شاكيري المولودان في سويسرا لعائلتين كوسوفيتيين هدفين، ما منح سويسرا فوزاً على صربيا (2ــ1) واحتفل اللاعبان بهدفيهما من خلال التوجه نحو المشجعين الصرب، ووضع يدهما على صدريهما راسمين شارة "النسر المزدوج" الأسود اللون رمز البانيا الذي يتوسط علمها الأحمر، ما اثار سخط الصحافة الصربية التي نددت به ووصفته "بالاستفزاز المخز".
الخاتمة:
لم يكن مونديال الدوحة في منأى عما ذكر سابقاً، ولن يكون مجرد نزالات كروية رياضية فحسب، بل أيضاً نزالات حضارية وثقافية في صميم الهوية التي تحاول الدول (الكبرى) فرضها بكل قوتها المالية والإعلامية على الدول الأصغر منها وخصوصاً في المنطقة العربية؛ تريد فرض ممارسات وثقافات على أكثر من مليار وثلاثمائة مليون عربي ومسلم، بعضها ممارسات يرفض حتى السذج في كل الكرة الأرضية، ما تريد القوى العالمية المتنمرة فرضه في مونديال (الكرة الرياضية). فقد برز في هذه الدورة حجم غير معقول ولا طبيعي ولا منطقي من التنمر والعنصرية والاستعلاء بحق الدولة المستضيفة (قطر) وثقافتها، وهي طبعاً تمس محيطها العربي بشكل أعم، وبالتالي هذا يفتح كثيراً من الأسئلة المتعجبة عن الغرض من وراء إفساد هذا المحفل الرياضي العالمي الأهم بتسييس موتور لقضايا بعينها هي في الواقع في منتهى لجدلية.
الانتقائية في السماح بإثارة بعض القضايا دون غيرها في المحافل الرياضية الكبرى ستثير كثيراً من الشكوك وتفتح الباب لبحث مؤامراتي والإجابة عن السؤال البديهي عمن يقف خلف ذلك. ومن السطحية والسذاجة تصور أن مباريات كأس العالم وكأس القارات وكاس كل قارة والألعاب الأولمبية مضيعه للوقت او هي للتسلية والإثارة فحسب، أو أنها مشروع لقوى خفية لإلهاء الشعوب، بل هي علاوة على منافعها الاقتصادية، نوع من مؤشرات القوة والهيمنة وتمرير الثقافات، فالمهيمن والمنتصر كروياً وأولمبياً لم تأتِ انتصاراته ولا هيمنته إلا بتخطيط واستراتيجيات وإعداد مكثف متقن وتمويل سخي، وهذه لا يقدر عليها إلا المتفوقون.