البريطاني توم سميث يتخيل هبوط الفضائيين وتجلد الأرض
من فيلم "أقدام الأرض الباردة" (ملف الفيلم)
الأندبيندت/ سناء عبدالعزيز:هل فكرت يوماً وأنت تشاهد فيلماً عن غزو كائنات فضائية لكوكب الأرض، إلامَ يؤول مصير سكان القارات الست، البالغ عددهم بحسب آخر إحصائية 8 مليارات نسمة، لو لم يظهر البطل الأسطوري في اللحظة الحاسمة، ويضطلع بمهمة إنقاذ البشرية، مدفوعاً بفروسية لم يتسن لنا رؤيتها إلا في أحلام المراهقات وعبر شاشة التلفاز؟
يقيناً لم تفكر. في روايته الخامسة "الناس الباردون" الصادرة حديثاً عن دار "سكريبنر"، يتخذ الكاتب البريطاني توم سميث من تلك الفرضية المشؤومة منطلقاً لملحمة لا تنسى. ولا غرابة في ذلك، وهو المعروف برواياته التاريخية والنفسية المشوقة ومنها ثلاثية "الطفل 44"، التي حققت أعلى المبيعات وترشحت للعديد من الجوائز، منها جائزة بوكر وجائزة كوستا 2008، فضلاً عن تحويلها إلى فيلم من بطولة توم هاردي ونومي ريباس وغاري أولدمان، واقتباس شخصيتها الرئيسية "ليف ديميدوف" في فيلمين من أكثر الأفلام رواجاً.
مستعمرة أنتاركتيكا للناجين
وُلد توم روب سميث عام 1979 لأم سويدية وأب إنجليزي، اشتهرا بتجارة التحف والأنتيكات، بيد أن سميث شغف منذ صغره بكتابة المسرحيات وبعد تخرجه من جامعة كامبريدج عام 2001، أكمل دراسته في إيطاليا ودرس الكتابة الإبداعية لمدة عام. صدرت أول رواية له "الطفل 44" في عام 2008 وتدور حول سلسلة من جرائم قتل الأطفال في ظل حكم ستالين، وأتبعها بروايته النفسية "المزرعة" عام 2014 التي تمكنت من طمس الخطوط الرفيعة بين العقل والجنون، والخيال والواقع، من خلال فحص مرض الذهان لدى والدته. فبقدر ما أخل بعقلها، جعلها شديدة الوعي بذاتها حد أن بلغت جنون العظمة، وهو ما جعله يقر بحيرة: "أدركت أني لا أعرف شيئاً عن المرض". وها هي روايته الخامسة "الناس الباردون" تتنبأ بنهاية العالم أو بدايته، من خلال فكرة استهلكتها السينما في عدد لا حصر له من الأفلام، وإن كانت لا تعول عليها كثيراً، فهي لا تعدو هنا كونها مجرد وسيلة منه للزج بمسرح الأحداث في أبرد مكان في العالم، حيث لا تعيش إلا البطاريق وعجول البحر، ونبات التندرا وبعض أنواع الطحالب.
يستهل سميث حكايته التي تمزج الواقع بالخيال العلمي، بمقالين قصيرين عن تاريخ القارة القطبية الجنوبية قبل ألفي عام، حين اكتشف أحد الرحالة أرضاً باردة، وفكر أن في مثل هذا المناخ الصعب لا يمكن أن تعيش إلا قبيلة من المتوحشين. فهل كان على حق؟ يرد سميث على هذا السؤال بتقنية جريئة وسريعة الإيقاع، تطوي الزمان والمكان لتصل بنا إلى لشبونة في عصرنا الراهن، حيث تقضي فتاة أميركية تدعى ليزا عطلتها مع أسرتها في البرتغال، وهناك تلتقي أتو ويلقي كيبويد بسهم واحد ومحسوب في قلبيهما معاً. وما إن نستشعر بحلاوة الدفء، حتى يفترش أسطول من سفن الفضاء صفحة السماء المرصعة بالشمس والقمر والنجوم وتشكيلات السحاب، ملقياً برسائل تحذيرية إلى سكان الأرض، السادرين في غيهم، ويأمرهم بالذهاب إلى القطب الجنوبي في فترة زمنية لا تتجاوز الثلاثين يوماً من دون الإتيان على ذكر الأسباب أو المطالب، أو حتى إمكانية إجراء مفاوضات مع مثل هذا الاستعمار الكارثي. وعوضاً عن ربكة الاختيار بالنسبة إلى ليزا، بين أن تصبح طبيبة أو تجد في البحث عن مسار أكثر ميلاً إلى المغامرة، يتناسب مع طبيعتها الطموحة، تتولى قوى علوية مجهولة مهمة الاختيار عنها.
هنا تنتهي قصة الفضائيين إلى غير رجعة بنهاية غير متوقعة، فبدلاً من التصدي للخطر المقبل من السماء من قبل القادة والحكومات، نتفاجأ بنوع من الامتثال الغريب، إذ يذعن الجميع كأفراد منزوعي الحماية، لكافة الأوامر التي تملى عليهم من كائنات أكثر تطوراً من دون أدنى مقاومة، ويشرعون في الرحيل إلى القارة السابعة، أكثر بقاع الأرض قسوة وعزلة والتي لم يصلها إلا عدد محظوظ من البشر، بكثير من التضحيات، ومنهم النرويجي روألد أمندسن في عام 1911. وكان منافسه في هذا السباق، البريطاني روبرت فالكون سكوت وقد لقي حتفه في تلك المحاولة المحفوفة بالمخاطر.
هكذا تنتهي الحضارة الإنسانية وهي في أوج ازدهارها، إذا ما سلمنا بأننا نتجه بالفعل نحو التطور بحسب رأي المتفائلين منا، أو لعلها تبدأ صفحة جديدة كما في حادثة الطوفان العظيم، نتيجة لطغيان البشر وفساد أخلاقهم وسوء استخدامهم للموارد واستشراء العنصرية والتحيز، وسيولة المشاعر أو بالأحرى برودتها غير المحتملة، لو سلمنا بنظرة المتشائمين منا. لكن سفينة نوح التي صنعت على أعين السماء وبمشيئتها، تتحول على يد سميث في القرن الواحد والعشرين، إلى ناقلة عملاقة مرصودة بأعين الغرباء القساة، أصحاب الأمر والنهي وإنفاذ القرار، ويخضع الناجون فيها إلى مبدأ الانتقاء لضمان الاستمرار، وإعادة بناء حضارتهم في بيئة جديدة، بحيث يصبح لزاماً عليهم ترك أطفالهم الذين تقل أعمارهم عن 14 عاماً والبالغين الأكبر من 45 عاماً. تُرى، هل تستطيع البشرية التخلي عن رعونتها ومخاوفها وتحيزاتها، لتستجلب الدفء إلى أبرد بقاع العالم؟
انقسامات متتالية في أرض بعيدة
بعد سلسلة من الهجرات الجماعية، تقشعر لها الأبدان، تدور في المستقبل القريب، وتحديداً في صيف العام الحالي 2023 الذي بتنا ننتظره بفارغ الصبر، عقب موجات البرد غير المسبوقة جراء تغير المناخ. ينجح البعض في الهبوط على الأرض المتجمدة قرب منتصف الرواية، مخلفين وراءهم الفردوس المفقود، بينما يهلك الآخرون أو تضيع فرصتهم في اللحاق بركب الناجين الذين ينشئون حدوداً غير قابلة للاختراق في اللحظة الدقيقة التي تنتهي فيها الثلاثون يوماً، ومن ثم يتعرضون للفناء. ولكن كيف سيتكيف الناجون مع برودة تحت الصفر؟ هل بوسع الكارثة المشتركة أن تربط البشر أم ستجعلهم أكثر تشككاً من ذي قبل؟ سبق أن قدم سارماغو في روايته "العمى" الإجابة المرعبة، حين أعلن ببساطة أن هذه هي الطينة التي جبلنا منها، نصفها خبث ونفسها استهتار.
داخل المستعمرة يجري سميث انقساماً جديداً بين الناجين، إذ يسعى فريق منهم إلى مجرد البقاء على قيد الحياة بالحصول على الغذاء والمأوى كما هي الحال، في الوقت الذي ينشغل فريق آخر بطموحات أوسع، مثل علماء الوراثة الذين يتلاعبون بالحمض النووي، في محاولة لخلق نسخ بشرية أكثر قدرة على التكيف، ليذكرنا بما فعله البرد القارس في كائنات من لحم ودم، فقدوا أجفانهم حين جفت وسقطت كجلدة زائدة، تاركة الأحداق مفتوحة على اتساعها. كما يذكرنا بالقارة نفسها؛ المحمية الجديدة للبشر، على رغم أنفهم، والتي تسبب تغير المناخ في انكماشها على نفسها. داخل هذا الانقسام يتشعب هؤلاء "المتكيفون مع الجليد" بدورهم إلى فريقين، تيمناً بأسطورة فرانكشتاين لماري شيلي، إلى مسوخ شائهة تمثل تهديداً للحضارة الوليدة جنبا إلى جنب مع شخصيات مثل إيكو؛ المراهقة البالغ طولها ستة أقدام، وتحتفظ بمشاعرها الإنسانية طازجة، على رغم التعديلات التي أجريت عليها، وتشمل تحول دمها إلى الأزرق المخيف، وخلاياها الدهنية المشتقة من الأخطبوط، وجلدها إلى ما يشبه السحلية، كنوع من القشور المتغيرة اللون، إما للاحتفاظ بالحرارة أو لطردها. من هنا يتصاعد التوتر بين أولئك الذين تبنوا تعديلات الحمض النووي كطريقة لحماية أطفالهم من البرد تحت الصفر وأولئك الذين يعتقدون أنهم فروا من الفضائيين ليستنسخوا كائنات فضائية تخصهم وحدهم. وفي الاستجابة للبرنامج الذي أطلقته الولايات المتحدة قبل خمسة عشر عاماً من الغزو في إحدى المحطات الرئيسية في أنتاركتيكا، ترى أي الفريقين في تلك المعركة الضارية سينتصر في النهاية؟