ملامح أساسية للعلاقات الدولية المعاصرة في ظل النظام الدولي الجديد
د. ضرغام الدباغ
ملامح أساسية للعلاقات الدولية المعاصرة
في ظل النظام الدولي الجديد
دراسات ـ إعلام ـ معلومات
العدد : 407
التاريخ : / 2021
بعد مسيرة حافلة بالتوتر خلال الحرب البارد بكل فصولها، توجت بعقد قمة في 3 و 4 ديسمبر 1989 على متن بارجة سوفيتية ترسو في مياه مالطا في البحر الأبيض المتوسط بين الرئيس السوفيتي والأمريكي جورج بوش، رسمت نهاية المعسكر الاشتراكي، من جهة، وانتهت من جهة أخرى حقبة مهمة من تاريخ العلاقات الدولية بأختتام مرحلة القطبية الثنائية لتبدأ مرحلة جديدة بهيمنة البلدان الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة كقطبية أحادية أطلق عليها (النظام الدولي الجديد) ثم أتخذ النظام تسميته الأشهر (العولمة).
من الثابت علمياً، أن التوسع والهيمنة يحكم طبيعة الرأسمالية، وقد تسعى الأقطاب الرأسمالية إلى تنسيق فعالياتها كي لا تصطدم ببعضها وتجنب ما قد ينجم عن هذا الاصطدام من آثار مروعة، وقد تعقد تحالفات وائتلافات، وقد تتفق فيما بينها على هذا الأمر أو ذاك مرحلة معينة، وتعقد المؤتمرات والاتفاقيات وتتقاسم فيما بينها(المصالح)، ولكن هذه الترتيبات ليست نهائية، وعندما يصل التنافس ذروة معينة، آنذاك سوف تسعى الأطراف المتنافسة تقاسم جديد، فتنهض تحالفات جديدة، وتدور صراعات تحمل بذور تطورها إلى صراع مسلح، حين يبلغ التناقض نقطة لن يكون بوسع نظام العلاقات السائد استيعابه، ويبلغ التناقض في المصالح درجة لا يمكن السكوت عنها، يتطور ذلك الصراع إلى درجته المسلحة بصرف النظر عن الخسائر، ومثل هذا التنافس يدور اليوم بشتى الصور، ظاهراً كان أم خفياً.
في هذه المقدمة المختصرة، مدخل لاستعراض المرتكزات والشروط الأساسية من أجل فهم دقيق للعولمة المؤشرات السياسية والاقتصادية، من خلال:
أولاً : إن العولمة هي مرحلة من المراحل التاريخية لتطور الرأسمالية، بل هي أكثرها تطوراً، إن اتحاد الدولة مع الشركات، الذي أنتج الدول الإمبريالية. مثل عبر تطوره اللاحق إلى العولمة تعبيراً لتطور هائل الذي بلغ مرحلة متقدمة في تطوره، عابر للحدود الدولية ليشمل العالم بأسره.
ثانياً : إن فعاليات الشركات المتعددة الجنسية قد تشابكت وتداخلت لتصبح من سمات الحياة الاقتصادية اليومية لمعظم شعوب العالم، وكذلك كثافة حركة رأس المال على الصعيد العالمي عبر شبكة هائلة من البنوك تغطي العالم .
ثالثاً : إن الموقف الاجتماعي الداخلي(بسبب شدة تمركز رأس المال المصرفي لارتفاع كلفة المشاريع، وارتفاع معدلات التضخم) أدى إلى وقوع الدولة وأجهزتها في قبضة الاحتكارات والبنوك ونفوذها وهيمنتها وغدت الدولة مسخرة بصفة مطلقة لخدمة هذه الشركات العملاقة وليس أدل على ذلك من أن الولايات المتحدة ومثلها الدول الرأسمالية الرئيسية وعلى الرغم من ثرائها الكبير، لا تعمل بمجانية العلاج حتى للفئات المسحوقة، بل أن تكاليف التأمين الطبي باهظة بحيث يعجز عن دفع نفقاتها فهناك،37 مليون أمريكي عاجز عن دفع نفقات التأمين الطبي عام 1990 وأن 20% من أصحاب الثروات يستحوذون على 90% من صافي الدخل القومي.
وفي مطلع الثمانينات بلغت شدة درجة تمركز رأس المال في الولايات المتحدة، لدرجة سيطرة ثمانية مؤسسات مالية كبرى هي: مورجان، روكفلر، ديبوت، ملبون، بنك أوف أميركا، بنك شيكاغو، بنك كليفلاند، بنك فرست ناشنال سيتي، بلغ رأسمالها المستثمر في السبعينات 218 مليار دولار.
رابعاً : أما على الصعيد الخارجي، ولأن اشتداد دولنة الاقتصاد(أي المزيد من جعله دولياً) جعل من ذلك العنصر الأساسي، السمة الأساسية للمرحلة وعنصراً مهماً في أقامة التحالفات الخارجية للدولة(الولايات المتحدة) التي تولت قيادة الإمبريالية الجديدة(العولمة) بفضل انفرادها بالهيمنة على العالم.
خامساً : مثل التنافس بين الأقطاب الرأسمالية عبر التاريخ وما يزال، فقرة أساسية في العلاقات بين الدول الرأسمالية وليس ظاهرة عابرة. وكثيراً ما وصل إلى ذروته(الصراع المسلح) وقد حدث ذلك في مراحل التاريخ دائماً (14,000 حرب ونزاع مسلح)، أن التنافس والصراع على مراكز النفوذ واقتسام العالم كان السبب الرئيسي في هذه الصراعات، وسوف يستمر هذا العنصر ملازماً للرأسمالية في كافة مراحلها. وربما تقلص أسلحة الدمار الشامل عدد الحروب وأتساعها ولكنها لن تمنع اندلاعها بأي صورة من الصور، ومن تلك ما تسمى الحروب بالنيابة (proxy war).
وتتميز العولمة بوصفها الناتج الطبيعي لتطور الرأسمالية لما بعد مرحلة الاستعمار الجديد ـ الإمبريالية، بسمات وملامح في هياكلها السياسية والاقتصادية، كما في توجهاتها على الصعيد العالمي ومن تلك:
أ / باعتبار أن عملية تمركز رأس المال المصرفي ماضية ومتواصلة لتكون في يد فئة قليلة من كبار الرأسماليين(مصارف، مؤسسات تمويل واستثمار) ترافق مع تعاظم نفوذها، الذي أنعكس بداهة على تأثيرها السياسي داخلياً وخارجياً. كما غدت القوة الأولى المهيمنة في البلدان الصناعية الرئيسية، فهي ليست المغذية الأولى للصادرات إلى الخارج الاستهلاك الداخلي فحسب، بل وتعدى حدودها إلى احتكارها لصناعة السلاح وأنشطة الفضاء الخارجي، فغدت الدولة نفسها الأداة الأولى لها، ويندر أن يخلو ملف من ملفات الدولة الخارجية من أهداف هذه الشركات العملاقة على رأس جدول أعمالها، وتصب معظم فعاليات الدولة السياسية / العسكرية في طاحونة مصالح الشركات.
ب / بناء على ذلك تراجع دور الرئيس والمؤسسات في اتخاذ القرارات مقابل تعاظم دور المؤسسات المالية وما انبثق عنها من إدارات وهيئات تحت عناوين ومسميات شتى، بل أن الشركات والبنوك، تدير معاهد دراسات وأبحاث سياسية وعلمية وغيرها. ويلاحظ أن القرارات تخضع لعملية طويلة نسبياً، ولكن في النهاية فهي تراعي بالمقام الأول مصالح االعمالقة الاقتصاديين.
ج / واستطرادا، فقد احتكرت الفئات العليا من ملوك الصناعات والبنوك السلطة، وجعلت العناصر الأخرى، عناصر مساعدة ثانوية الأهمية، وتلك صيغة فريدة في وصف الائتلاف السياسي / الاجتماعي الحاكم. وما يثير الدهشة أن هذه الأنظمة تسوق شعارات الديمقراطية في وقت تحتكر فيه السلطة بحدود ضيقة للغاية. ولكن باعتبار أن النظام الرأسمالي هو نظام قديم تاريخياً، والنظم الحالية أنما هي حصيلة تطور وخبرة قرون كثيرة، تطورت فيها أساليب وتقاليد العمل حتى بلغت هذا المستوى من ترويض العناصر المعادية لها، ووضع القوة البشرية في خدمتها، بما في ذلك نقابات عمال موالية لها.
د / الإقحام المتزايد لمعطيات الثورة العلمية التكنيكية وشيوع استخدام العقول الإلكترونية والروبوتات في الصناعات الثقيلة والمايكرو أليكتروتكنيك في المعدات الدقيقة.
و / وباعتبار حقيقة مؤكدة هي أتساع حجم وأهمية الاقتصاد الدولي وتكاثف نشاطاته وفعالياته لدرجة يصعب فيها ملاحقة ومتابعة الأصول والجذور لرؤوس الأموال والشركات، فقد غدا الاقتصاد عنصر الضغط الأساسي الذي تمارسه الدول الرأسمالية المتقدمة، إلى جانب وسائل الضغط الأخرى ومنها العسكري، كما يلاحظ وفي أطار تصدير رأس المال ودور الديون وفوائدها وأقساطها في اقتصاديات الدول النامية، الأمر الذي رفع من قيمة ونفوذ المؤسسات المال في دول المركز من جهة كما زاد من تبعية الدول المدينة من جهة أخرى.
ز / تبدي العولمة وأدواتها الثقافية( وهي كثيرة ومتنوعة، إعلامية وثقافية)العداء لكل ثقافة لا تستسلم لها بصفة تامة، بالاستفادة من الثورة التكنولوجية في دنيا المعلومات وشبكة الاتصالات الدولية والفضائيات، تقدمت العولمة بمشروع ثقافي لا يكن الاحترام للثقافات والمنجزات الحضارية، والقيم الثقافية/ الدينية للشعوب الأخرى، ويسعى في حملات غزو وتأثير سلبي وأضعاف وتهميش لتلك المنجزات بهدف أضعاف شخصيتها الوطنية والقومية وجعلها خيوطاً رفيعة في نسيجها الثقافي، وعدم الاكتفاء (كما فعل الاستعمار والإمبريالية) بجعل الشعوب توابعاً في خدمة اقتصادها العالمي، بل وتكريس تبعيتها نهائياً بإلغاء ملامحها وثوابتها الثقافية والوطنية والقومية، فقد أدركنا من تجربة الاستعمار والاستعمار الجديد، وأن العناصر الثقافية والروحية والقومية لعبت دوراً مهماً في الكفاح الوطني ضد الاستعمار والإمبريالية، لذلك تحاول العولمة تحطيم تلك العناصر في شخصيتها لتزيل عقبة مهمة لتحقيق هيمنتها التامة.
فالعولمة تهدف إذن إلى بصفة عامة إلى ترتيب مسرح العلاقات الدولية بهذه المؤشرات:
ـ عولمة الاقتصاد: إيجاد عالم بدون حدود اقتصادية وجعله عالماً واحداً فقط، وذلك يعني حرية الطرف الأقوى: الاحتكارات.
ـ الثورة العلمية التكنيكية: اندماج للعلم متزايد مع التكنولوجيا بوتائر متسارعة.
ـ استنفاذ الدولة لدورها التنموي وسقوطها التام فريسة بيد الشركات والمؤسسات المالية.
ـ مبدأ كفاءة وحرية السوق، فكرة تتبنى الحرية كمفتاح رئيسي لنظرية الحرية المطلقة للعمل الرأسمالي، بوصفه محركاً لعالم شامل مزدهر ومحفز للثورة العلمية( حرية السوق، خلوه من العوائق الافتراضية للدولة كقوانين الحماية).
ـ أطلاق موجة ثقافية على كافة الأصعدة السياسية/ التاريخية/ الفنية / الموسيقية ... الخ تؤدي في النهاية إلى خلق ثقافة سطحية لا تغوص إلى مشكلات الإنسان الحقيقية والعميقة ولا تعبر عنها.
تدل أحداث كهذه بالإضافة إلى فعاليات شتى منها معاقبة شعوب بأسرها: حصار وعدوان على العراق يستمر لمدة 12 عاماً، يعقبه هجوم شامل واحتلال مباشر وإدارة استعمارية، وحصار دام 8 سنوات على ليبيا، أسفر عن رضوخها للابتزاز، وصمت حيال حصار غزة، والمجازر في سوريا، وتدمير العراق ومحاولات تفكيكه.
وتستهدف الولايات المتحدة بوصفها قائدة للمعسكر الإمبريالي الجديد وقطبه العدواني الشرس في توجهاتها عدد واسع من الأهداف على أسس مختلفة، أسس أثينية / دينية، الإسلام والكونفوشية بدرجة رئيسية: إذ لا يخفي مفكروا العولمة العداء للإسلام بوصفها تيارات ثقافية تضم اتجاهات أخلاقية وتقاليد تناهض تقاليد العولمة وثقافتها المتفسخة، البلدان العربية بوصفها تمثل قدرة حضارية وثقافية واقتصادية مهمة، واعدة في المستقبل، والبلدان الإفريقية بوصفها هدف دائم للنهب الاستعماري والاستثمار، ومساعي الولايات المتحدة تكاد تكون مكشوفة تماماً في إشاعة الحروب الأهلية وتشجيعها، وشراء ذمم شخصيات سياسية ومحاولات أحداث انشقاقات وتمرد والتحريض على المذابح والمجازر.
ولا ترغب الدوائر السياسية أو الأكاديمية الغربية على حد السواء، حتى تلك التي توصف بالحصافة والعلمية والاتزان، الاعتراف بأن ما تشهده البلدان النامية في واقع الحال ليست سوى مخلفات المرحلة الاستعمارية وآثارها السياسية والاقتصادية والثقافية، في وقت يبدو ذلك ظاهراً للعيان دون أي فرصة للالتباس، فعلى سبيل المثال يتمثل السبب الحقيقي لعدد كبير من الصراعات المسلحة إلى قضايا الحدود العالقة، إذ كانت الإمبراطوريات الاستعمارية خططت الحدود بين الدول بناء على مصالحها الاقتصادية والسياسية / العسكرية، أو بناء على قدراتها العسكرية، وهكذا نشأت العديد من مشكلات الحدود التي تسببت في النزاعات المسلحة، كما أن السحق الثقافي والاجتماعي قطع مسيرة تقدم شعوب أخرى كثيرة، لذلك فقدت خصائصها الوطنية والقومية، وهي تكافح الآن من أجل استعادة لغاتها الوطنية وتقاليدها، والسيطرة على ثرواتها الطبيعية التي هيمنت عليها الدول الاستعمارية، وسط تناقضات لا حصر لها، جلها بسبب الحقب الاستعمارية وميراثها، أضافت العولمة ملامحها الجديدة من أساليب الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية.، وقد نجد اليوم دولاً مستقلة شكلياً، إلا أنها فاقدة لمرتكزات الاستقلال على أصعدة عديدة.
ويروج منظروا العولمة، أن العالم وبفعل التقدم الكبير في وسائل الاتصالات، حيث قامت شركات الطيران في أنحاء العالم قامت بنقل 3.13 مليار راكب على متن رحلاتها المنتظمة، الطائرات(بلغ عدد المسافرين عام 1999 بواسطة النقل الجوي في العالم 1،580 أي ما زيد على المليار والنصف) وشيوع استخدام أجهزة الحاسوب (الكومبيوتر)، واستخدام الأقمار الفضائية في مجال الاتصالات والنقل التلفازي، والنقل المباشر لأنشطة أسواق السهم والسندات المالية(البورصة) عبر العالم، الأمر الذي مكن انتقال رؤوس أموال ضخمة بلمسة زر بين المصارف، وعقد الصفقات التجارية خلال أوقات قياسية، الأمر الذي جعل من العالم حقاً أشبه بقرية كبيرة، وعملت الأنظمة الرأسمالية على إزالة أية قيود أمام انتقال رؤوس الأموال السائلة أو بواسطة الشركات العملاقة، والتهديد بالعزل على من يخالف شروط الانتقال الحر للأموال، وتحقيق الأرباح وتحويلها، وبذلك أصبح العالم بأسره عبارة عن مزرعة للاستثمارات، تتوارى الإمكانيات المالية البسيطة أمام المنافسة الضارية، وأصبحت شعوب البلدان النامية أيدي عاملة زهيدة الثمن أمام الشركات العملاقة التي راحت تفرض شروطها في ظل من الهيمنة السياسية والاقتصادية المطلقة.
في نهاية الحرب العالمية الثانية، كان المذيع الأمريكي يتهيأ لنقل نشرة الأخبار، وأدلى بهذه الجملة: يتعين عليكم أيها السادة المستمعين الاستعانة بالخرائط لما سنتلوه عليكم من أنباء. ولا تخفي العولمة والنظام الدولي الجديد اليوم عن نواياهم بتغير الخرائط بل وأحداث تغيرات عرقية ودينية وفق رؤى(عصرية) تتلائم مع العولمة. وحتى زمننا المعاصر كلفت مرحلة تنفيذ خطوات العولمة مئات الألوف من القتلى، وأضعافهم من الجرحى، وتعترف منظمات غوث اللاجئين أن كارثة إنسانية قد حدثت ربما هي الأقسى منذ تشريد الفلسطينيين من بلادهم، فقد هجر الملايين من العراقيين من بلادهم إلى البلاد المجاورة، وإلى بلدان أخرى، مثلهم ملايين السوريين، وتجري أعمال تطهير عرقية وطائفية بصفة علنية في أكثر من بلد، وتجري فعاليات تحريض على الفتن والحروب الداخلية بهدف نهائي هو وضع خرائط جديدة للعالم تتناسب مع أهداف القوى المهيمنة على النظام الدولي الجديد(العولمة)، وليس من المستبعد أن تتراكم أسباب خلافات، وتتصاعد أزمات لتبلغ درجة توتر عالية يصبح معها أمر اندلاع نزاعات مسلحة ليس مستبعداً، فالمشكلات القادمة تحمل معها طابعها المتفجر:
• الطاقة.
• البيئة ومضاعفاتها: الاقتصادية/الجغرافية
• ندرة المواد الخام.
• إقامة مناطق محيطية للمراكز.
• انتشار أسلحة الدمار الشامل.
• الهجرة الشرعية وغير الشرعية.
• الأمراض الفتاكة(الإيدز ـ أنفلونزا الطيور ـ إيبولا).
وإذا كانت النتائج الاقتصادية من تصاعد مديونية البلدان النامية، وتعاظم ظاهرة الفساد، والحروب الصغيرة والكبيرة، كما يعترف بذلك منظروا العولمة(برجنسكي: أن العالم لم يصبح أكثر أمناً، بالإشارة إلى تقرير سنوي حول النزاعات في العالم أن عام 2002 وحده شهد ثلاثة وعشرون نزاعاً مسلحاً راح ضحيته 125000 ألف إنسان، بالإضافة إلى 79 نزاعاً متوسطاً، تسبب في مقتل 100/1000 لكل منها، و38 نزاعاً سياسياً عنيفاً أدى كل منها إلى مصرع 25/100 شخصا، ولم تشخص إلا 35 دولة فقط في العالم تخلو من الصراعات السياسية العنيفة، أي أقل من ربع دول العالم) ويضاف إلى ذلك أرقام كبيرة عن ضحايا الصراعات المسلحة في أفغانستان وفلسطين وسورية والعراق.
وبسبب عنف العوامل الاقتصادية والسياسية والديمغرافية (السكانية) والصراعات والنزاعات المسلحة من حروب وحروب أهلية وأشباهها، تصاعدت أرقام الهجرات غير المشروعة من الدول الفقيرة صوب الدول الغنية، أو الدول الأكثر أمناً بما أصبح يمثل قلقاً حقيقياً لتلك الدول لتداخل العناصر البيئية والثقافية والاقتصادية والعرقية... الخ، وتشير الإحصائيات إلى أرقام بالملايين من المهاجرين، في مقدمتهم للأسف اللاجئين من منطقتنا: الفلسطينيين والسورين والعراقيين.
لقد اضعف احتلال العراق مصداقية الأمم المتحدة إلى حد بعيد، وألحق الوهن بمؤسسات العدل الدولية، وقد عبر العديد من قادة الدول أن العالم قد أصبح أقل أمناً، وأن الاعتماد على الأمم المتحدة كمقر للدبلوماسية الدولية ولحل المشكلات بالطرق السلمية بات محفوف بالشكوك، وإن سيادة الدول لم تعد بمأمن، وتقود هذه الحقائق الجديدة إلى تساؤل مهم: ما لذي يمكن أن تفعله الدول الصغيرة لتبقي على استقلالها وأن تصون مصالحها السياسية والاقتصادية والثقافية وتبقي على بلدانها بمنأى عن المخاطر ؟
وبينما تؤيد الاتفاقيات الدولية ومنها قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المتخذ بتاريخ 18/2/1972 كفاح الشعوب التي تتعرض للغزو والاحتلال ويعتبرها حقاً مشروعاً، سعت الولايات المتحدة راعية النظام الدولي الجديد، إلى وضع قواعد جديدة لمفاهيم الإرهاب تضع كل معارض أو مقاوم لخططها وفعالياتها السياسية والعسكرية في حقل الإرهاب، برغم أن ذلك لم ينل تأييد المجتمع الدولي، إلا أن أنها ماضية في تفسير أحادي لهذه العناوين، وتشن أنشطتها العسكرية بموجب تفسيراتها، وتضع ثقلها السياسي في مجلس الأمن في إقرار قررات تكيل بمكيالين، وتتسم بالقسرية كالحصار والعقوبات واستخدام مبالغ به للفقرة 7 من الميثاق الذي يجيز استخدام القوة المسلحة.
ويشبه العمل السياسي في العصر الراهن السير في حقل ألغام خطر، فالميدان ملئ بالمفاجئات، وعلى القوى المناهضة للإمبريالية الجديدة (العولمة) أن تستوعب حقائق العصر وأن تعمل بسياسات مرنة عندما يتطلب الموقف منها ذلك ولكن أن لا تتردد عن المواقف الصلبة الصلدة إزاء حقوقها الثابتة واستيعاب حقائق التناقض بين الأقطاب الإمبريالية وتشكل التحالفات والائتلافات فيما بينها، ورسم الطرق المؤدية إلى سلامة أهدافها الوطنية والقومية في هذه الغابة الشائكة المتشابكة من المصالح المتناقضة.
إذن فأهداف العولمة كثيرة ومتنوعة تشمل كافة اتجاهات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وكذلك هو المعسكر الذي يواجهه عريض وواسع، ولكن تشتت الإرادة، والآراء والقدرات ووعي القيادات يشوب صفوف هذه الجبهة ولكن ضراوة المعركة ونهم الإمبريالية سوف يسهم في تسارع عملية تبلور تشكل المعسكر المناهض للإمبريالية. وبقدر ما يسود التنسيق بين جبهاتها وتغليب التناقض الرئيسي أمام الخصم على التناقضات الثانوية في التفاصيل من أجل مواجهة هذا الخطر العاتي الذي لا يستهدف اقتصادياتها الوطنية كالاستعمار القديم، بل كيانها بأسره بكل مكوناته من دين ولغة وثقافة وعادات وتقاليد، بل وحتى الأمل بالمستقبل.
وبناء على هذه المعطيات، تثير (العولمة)الإمبريالية الجديدة عداء قوى ليست معادية للإمبريالية تحت عناوين وشعارات اجتماعية، بل ثقافية ووطنية بالدرجة الأولى. فقد كان الاستعمار يستثير ضده عداء عناصر واسعة من المجتمع، بما في ذلك عناصر من الإقطاع ورجال الدين، والفئات الوسطى الوطنية، فأن الجبهة المعادية للعولمة لا تقل جبهة العداء لها أتساعاً، لذلك فأن النضال المعادي لها الآن سوف يجد في صفوفه تيارات غير تلك التي ناضلت ضد الاستعمار والإمبريالية، منها قوى التحرر الوطني والديني والقومي، بالإضافة إلى الفئات الاجتماعية العريضة التي سترى في العولمة الجديدة(وذلك مهم) خطراً على مرتكزاتها الثقافية وأصولها وجذورها الفكرية وما يشكله ذلك من مخاطر على الروابط الوطنية والقومية تؤدي في المدى البعيد إلى تفكيك الكيانات الوطنية وأضعاف روابطها. وهي مخاطر عبر عنها بعض قادة البلدان الغربية كرئيس الجمهورية الألمانية الأسبق هورست كوهلر الذي قال بصراحة، أن العولمة تدمر وتسحق بشكل نهائي آمال الشعوب النامية.
وتشن القوى الغربية الهجوم على المنطقة بدواعي التصدي للإرهاب، وفي عداد ذلك يجري الطرق على التنوع الديمغرافي، والتناقضات الثانوية، وعلى الظواهر العارضة على حساب الجوهري، بهدف تجزئة القوى في المنطقة ليسهل لها التغلغل والتفتيت.
وتدرك الولايات المتحدة بوصفها قائد المعسكر الغربي سياسياً وعسكرياً، خطورة التورط المباشر مجدداً في الصراع المسلح وتداعيات مشاركة جنودها مباشرةً في المعارك مع أية قوى مسلحة من الميليشيات الموجودة في الساحة العربية والإسلامية، تركز استراتيجيتها على استخدام القوى المحلية بتقديم مغريات التسليح والدعم الجوي والعسكري واللوجستي والمالي، كتوريط القوى الكردية في الصراع الدائر وجعلهم رأس حربة هذه المعركة، كما يجري العمل على استخدام القوى العشائرية والمجموعات المعارضة، لتكون جزءاً من هذه الحرب فينأى الجيش الأميركي عن خوض المعركة مباشرةً، مستخدماً الطائرات من جانبه، ومستعيناً بادواته في المنطقة أو بمن يقبل بالتحالف معه... ويتعزز حينها الانقسام المحلي بين المجموعات الدينية والعرقية والإثنية، تمهيداً لإضعافها جميعاً ولزرع العداء فيما بينها لعقودٍ قادمة وسنوات طويلة.
تدير الولايات الأمريكية الحرب تحت شعار الإرهاب الإسلامي، وتحت هذا الشعار، تنضوي أهداف عديدة، قريبة وبعيدة.
• المصالح الأمريكية الاقتصادية والسياسية هي في مقدمة الأهداف وهي تعمل على عدة خطوط :
1. السعي لإبقاء البلدان العربية بموقع التبعية السياسية تحت شعارات التهديد بقواها المباشرة القصف البعيد، التدخل الجوي بدون طيار، التدخل المباشر عند الضرورة القصوى (الخطر الإسرائيلي ـ الإيراني).
2. السعي للحيلولة قيام تضامن عربي، وحدة عربية، تضامن إسلامي.
3. حماية لإسرائيل التي يتزايد عجزها من الوقوف أمام حركات مقاومة وتفاقم القوة الذاتية العربية.
4. إبقاء مصادر الطاقة العربية تحت هيمنة الشركات الأمريكية تنقيباً واستخراجاً وتسويقاً، والاستحواذ على الفوائض النقدية بشتى السبل.
وفق الأساليب الأمريكية الكلاسيكية في إدارة المعركة سياسياً / عسكرياً، بتشكيل حلف يتكون إطاره الداخلي القريب من دول وبلدان المنطقة، وإطاره الخارجي الدولي من دول كبرى وصناعية وحليفة، تلعب دون المساند والممون، والمشارك إن أقتضى الحال.
مثلت (داعش) بصرف النظر عن الأسباب الظاهرة والكامنة، أفضل وسيلة لإرهاب وتأليب الأنظمة القوى وخلق المبررات على كافة الأصعدة، لدفعها إلى معركة تتشكل مفرداتها تدريجياً (تفهم روسيا لأبعاد الحلف ..!)ويكتمل وضوحها في مراحل لاحقة، ولكن بعد أن تكون أيدي الجميع قد ساهمت فيها.
الولايات المتحدة بوسعها أن تصور المخاطر وتضع الحدود، وتمنح المكاسب والعقوبات، وفي هذا الإطار سوف تساهم العديد ممن يبدون الممناعة.
بقصد أو بدونه، سيمتد ميدان الصراع بين القوى الرافضة للإذعان الأمريكي وبين قوى التحالف مناطق ستمتد بين العراق وسورية ولبنان، وربما في مرحلة لاحقة أرض في دول أخرى. ومن المستبعد أن تحقق خيار القوى العسكرية الأمريكية الأولى(القصف من بعيد بالصواريخ/ الطائرات / الطائرات بدون طيار) نتائج حاسمة، وسيعول على القوى المحلية في إحراز مكاسب على الأرض، وهو من المشكوك حسمه.
وبوسع أي مختص بالشؤون الدولية أن يدرك بسهولة أن النظام العولمي قد ولد معلولاً وينطوي على تناقضات، يحمل امراض موته واندثاره، ناهيك عن الصعوبات الجسيمة العملية، في عالم يزخر بثراء فاحش، إلى جانب فقر مدقع، وحيث لا يمكن تجميع هذه التناقضات في تحت سقف واحد، إذن فالتناقضات ستقود إلى صراعات، ومن الخطل بناء بيت، أو نظرية قائمة على تناقضات جوهرية وصراعات، ومن المستبعد أن تتمكن أي قوة مهما بلغت درجتها أن تقود العالم، دون صراعات وحروب، وفي ظل تراكم الأسلحة وتقدم صناعتها، فليس المتوقع سوى حروب طاحنة لا تبقي ولا تذر، أو التسليم بعالم متعدد الاقطاب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• القيت في مؤتمر علمي/ النصف الثاني 2014