القضية العراقية في شبكة العلاقات الدولية
ضرغام الدباغ
27/ آب ــ أوغست / 2023
القضية العراقية في شبكة العلاقات الدولية
يتداخل الموضوع العراقي في جداول عمل دول كبرى وغير كبرى، وتكاد القوى الكبرى تتفق أن العراق بما يمثله من ثقل سياسي واقتصادي وعسكري، يمثل بيضة القبان في توازنات الشرق الأوسط.، ولدينا الأدلة المادية الكثيرة والشواهد التي تؤكد هذه النظرية. وهذه الحقيقة إذا وافقنا عليها، فهذا يعني أن العراق سيمثل الفقرة الرئيسة في جدول مناقشات وخطط الشرق الأوسط الحالية والمستقبلية.
ولدينا من المؤشرات الكثيرة التي تؤكد أن الغرب ينظر للعراق نظرة أرتياب وشك، حتى في العهد الملكي، وحتى بعد قام حلف بغداد في العاصمة العراقية، وبعد أكثر من 20 عاماً على الاحتلال الثلاثي (الأمريكي الاسرائيلي والإيراني) أتضحت خيوط كثيرة، ومن تلك أن الولايات المتحدة رغم متانة صلاتها بالكيان الصهيوني، إلا أنها لم تبلغ لدرجة أن يقاتلون بقواتها المسلحة، بل فعلت ذلك من أجل إيران، وأهدت الأيرانيين ثمار الفوز، على طبق من ذهب.
سمعت مرة من الملك الراحل حسين بن طلال، أنه حاول ويحاول مع الإدارة الامريكية أن يقنعهم بجدوى الصداقة مع العرب والمسلمين بلا جدوى، فالأمر (الكراهية عميقة لحد العداء) متجذر عندهم لدرجة ميؤوس التعامل معها، والآن دعنا من العراق وأحداثه، سمعت مرة من وزير تركي يكلم وزيراً إماراتياً، أن الأمريكيين (خاصة) يفقدون موضوعيتهم حيال أي قضبة اسلامية، وعليك أن تحذر منهم لدرجة أن تخشى أن يسرقوا منك نعالك هذا الذي ترتديه ..! هذا مع العلم أن الجيش التركي قاتل في كوريا وفيثنام، في حروب لا ناقة فيها ولا جمل ، فالناقة والجمل هنا في تعقيدات بحر إيجة وفي ممر ناختشيفان ...!، والسعوديون ساروا مع الأمريكان والغرب حتى تعبوا، ولكنهم كانوا يتآمرون عليها حتى في قضايا ثانوية الأهمية. حسني مبارك يقول" اللي متغطي بالامريكان عريان " وضياء الحق يقول " التعامل مع أمريكا يسود وجهه كبائع الفحم ". وهؤلاء هم من أشد حلفاء الولايات المتحدة.
الغرب، والأمريكان خاصة، لا صداقات عندهم ولاتحالف ولا أئتلافات دائمية، هم يفهمون شيئاً واحداً الاستسلام دون قيد أو شرط، وللتأكد يقوم بإهانة حليفه يومياً ليتأكد من حسن الانقياد. ومن يرتاب بهذه النتيجة ننصح بمراجعة العلاقات الأوربية الأمريكية، والعلاقات ضمن الناتو. ولدى صناع القرار الأمريكي مستويات مختلفة للدول، لا ينبغي مطلقا تجاوزها، (بريطانيا غير فرنسا، وفرنسا غير ألمانيا، وهذه غير أسبانيا ) وخط المستوى المرسوم لنا بالغ السوء والانحطاط، يبقينا في حالة الضعف لدرجة الأنقياد، لا امكانية لقرار مستقل لدينا، ولا تفكير في قضايا الأمن القومي، ولا تطوراً اقتصادياً بدرجة يخرجنا من حالة التبعية.
في منطقتنا الموبؤة، (ولا يحمد على مكروه سواه)، نحن مبتلون بشتى أنواع الألغام البالغة السوء والتأثير، كيانان ملتحمان ديالكتيكياً بالغرب، وبالولايات المتحدة خصوصاً. إيران الكيان الذي تأسس عام 1935، وإسرائيل عام 1948. بمعنى أن الكيانان مصطنعان، غير موجودان في التاريخ القريب أو البعيد، حتى أن الغرب أجتهد في إيجاد تسمية لهما. فالكيانان مصطنعان، والوظيفة الأساسية لهما مناكفة العرب والمسلمين، وعدم السماح لهم بالتنمية والتطور ليصبحا شيئاً له وزنة في العلاقات الدولية، ناهيك عن التقارب بين البلدان العربية والاسلامية، فدقوا أسفينا يتمتع بالقوة والدعم الخارجي ليقوم بهذه المهمة على أكمل وجه.
وتكرست هذه العلاقة في بلاد شرقي زاغروس في العهد الصفوي وأكتسبت خصائصها المميزة، فالصفويون شيعوا البلاد الممتدة حوالي بحر قزوين لكي لا ينظموا تحت جناح دولة الخلافة الاسلامية (1501)، وقد لاقى هذا التوجه الأنشقاقي الدعم والتأكيد من جميع القوى ذات المصلحة في المنطقة والعالم، من الروس الذين يفضلون منطقة هشة تسهل السيطرة عليها، ومن الإنكليز الذين وجدوا في تعميق الأنشقاق في العالم الإسلامي ما يفيد مآربها. ولكن الحال تطور في عهد الدولة القاجارية(1796)، إلى علاقات تحالف له أسسه السياسية، ولهذا السبب دعيت فارس لحضور مؤتمر برلين وأدلت بدلو ودسائسها مع المتكالبين على الدولة العثمانية، ونالت حصة صغيرة في مؤتمر برلين 1878وذلك بضمها لقضاء كوتور شرقي مدينة وان (الدولة العثمانية). وبلاد فارس وجدت استقرارها المستند لوظيفتها منذ عام 1925 حين أزاح البهلويون النظام القاجاري وأسسوا نظاما جديداً تحت الرعاية البريطانية / الأمريكية تحت أسم جديد (إيران) اخترعه الإنكليز ويعني في تفسير مقاطعه (بلاد الآريين) دام حتى عام 1979، حين أنبثق النظام الكهنوتي.
أما إسرائيل، فقد وجدوا لفظة تعبر أن هذه هي بلاد بني إسرائيل، واليهود الذين كانوا قوما غير مرغوب بهم في أوربا، ولقوا الويلات في معظم الاقطار الأوربية المركزية(روسيا، فرنسا، ألمانيا، بريطانيا، أسبانيا)، فكانت المجر (هنغاريا) مرشحة لتكون وطنا قوميا لهم، ثم طرحت الارجنتين، ثم أوغندة، وأخيرا طرحت مدغشقر بقوة ودارت مفاوضات طويلة وتفصيلية، ولم يمنع تحققها إلا لأنها كانت مستعمرة فرنسية المحتلة آنذاك من الألمان (1939 ــ 1944)، وبعد الحرب طرحت بريطانيا فلسطين كوطن محتمل، وبذلك تضرب عدة أهداف بحجر واحد، منها * التخلص منهم ومن متاعبهم في أوربا كمكب نفايات، * وتشتيت الجهد العربي وتأثيراته السياسية والاقتصادية والثقافية، * زرع جرثومة في الأمن القومي، * وخلق قاعدة آمنة في قلب الشرق الأوسط.
تحالفت هذه القوى الثلاث: إيران، إسرائيل مع الولايات المتحدة كعنصر خارجي، والتحالف والأئتلاف في صيغته، يدلنا أنه قد يستغرق وقتاً غير محدد، ولكن كما لظروف عقده شروط، فلفضه أيضاً ظروف وشروط، مهما أستطال الزمن، وتعمقت العلاقة، والسياسة هي ممارسة للممكن، وما هو ممكن اليوم، ليس بالضرورة أن يبقى ممكناً أبد الدهر، والأمريكان حين قرروا اقتلاع نظام الشاه، كان حليفهم، ولكنهم وجدوا فيه رؤية أن يكون لنفسه مكانة عالمية ويتحالف مع الهند، حركة قرعت جرس الأنذار، فقرروا اقتلاعة تحت السيطرة (under control)ولكن دون أسقاط نظام الدولة الإيرانية ودون تغير في وظيفته الأساسية. وهذه تجربة تاريخية يمكن أن تتكرر.
النظام الإيراني أقل بكثير من لعب دور الدولة الكبيرة التي تتسع على حساب الغير، فهي بالكاد وبأستخدم مفرط لأساليب القمع السياسي والثقافي قادرة بالسيطرة على حركات شعبية واعدة تنذر بمستقبل غامض للدولة الإيرانية. وقد حدث مرتان أن أنفصلت شعوب إيرانية :جمهورية مهاباد الكردية، وجمهورية أذربيجان الشعبية خلال أقل من قرن.
النظام الإيراني فشل في تنفيذ مهمته، والنجاحات التي حققها لم تبلغ النهاية الناجحة التامة خلال 45 عاماً خلت، رغم أنها أشعلت أوار حروب شاملة(8 سنوات مع العراق)، وحروب اهلية (اليمن ولبنان والعراق وسوريا) ومحاولة فاشلة في البحرين. ومحاولات تغلغل عقائدية في أقطار أخرى أنفقت فيها الأموال الطائلة ومغربات كثيرة، وتهريب سلاح ومخدرات، مارست فيها دور صانع المشكلات (trouble maker) أكثر مما هي دولة عقائدية لدبها برنامج سياسي / اقتصادي / اجتماعي مقنع وصالح للتعميم، والأن يحق لمشغلها / حلفاءها أن يطالبونها بجرد للحساب.
تمر العلاقات الدولية الحالية بمرحلة أنعطاف وتمفصل، فالحرب الأوكرانية وإن لم تضع أوزارها بعد، إلا أن ملامح النهاية ونتائجها تلوح واضحة تقريباً، إلا أن فيما تبدو كمسلمات تلوح وهي بأختصار:
1. أن لا عودة إلى الوضع الدولي قبل فبراير / 2022.
2. روسيا والصين وكتلة لا يستهان بها(دول البريكس) يمثلون فريقاً مهماً على مسرح السياسة الدولية والأوربية خصوصاً.
3. السلام العالمي، التعاون الدولي شعارات لا يمكن تحقيقها إلا وفق سياقات وضمن نظام سياسي دولي، وأقتصادي جديد،
4. ضعف متواصل، قد يفضي إلى نهاية نظام الأمم المتحدة، ونهاية لنظام برتون وودز (1945) (الدولار كعملة وحيدة قابلة للتبديل بالذهب). المنتهي مفعوله عمليا منذ عام 1971 (Nixon shock) حين الغى امكانية تبديل الدولار بالذهب.
هذه المعطيات الهامة وتفاعلها، في الحياة السياسية / الاثتصادية العالمي تفرز تدريجيا واقعاً جديداً يفترض فيه أصطفافات جديدة، تلعب فيه المصالح الوطنية والاقتصادية دوراً مهماً، وستفرض الكتلة العربية بحجم (500 مليون نسمة) واقتصادات عملاقة، وعدد من الدول (الجزائر، مصر، السعودية، المغرب، دول مجلس التعاون الخليجي) والبلدان الأسلامية الكبيرة (تركيا، أندونوسيا، ماليزيا، باكستان، بنغلادش) دورا ريادياً، وستنكفئ إلى الخلف مكانة الولايات المتحدة، وحروب التدخل والوكالة والعقوبات، فنظام العلاقات الجديد يعتبر هذه الصفحات هي من عهود الاستعمار والإمبريالية والعولمة، أنطوت صفحتها. ودول أوربا المركزي (ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، أسبانيا) تنتهج سياسة النأي بنفسها عن الصرعات التناحرية.
الواقع الدولي الجديد سيفرز معطيات جديدة كقواعد عمل، وأرجح أن على الدول أستخدام أقصى قدراتها وتعبئتها، لطي صفحة الخلف، وهذه المعطيات الجديدة يحق لنا اعتبارها كمحفزات لتطور في المجتمع العراقي، والمجتمعات العربية وفي عموم المنطقة، الأمر يبدأ هكذا، أن ضرورة ماسة تطرح نفسها، لتطور جوهري في نظم الحكم، وفي المقدمة ننوه إلى صراعات اجتماعية / ثقافية مهمة تتواصل في في الكيان الصهيوني، تطرح في خطوطها وثناياها الحاجة الملحة التي قد لا تقبل التأجيل في تطور النظام إلى ما هو أكثر من خرافات دينية لاهوتية وإغراق في الغيبيات التي لا تسمن وتغني من جوع، هل يجوز في هذا العصر أن تعتمد دولة ما، الحلول بالدبابات والقنبلة الذرية، فيما يلمس الشعب مادياً فشل الدولة في حل الإشكالات.
والأمر نفسه بهذه الصورة أو تلك، يتكرر في إيران، فنظام ولاية الفقيه لم يلمس منه الشعب غير محاولات التوسع الفاشلة، المعتمدة على الحركات الانشقاقيةوالميليشيات المسلحة، والمؤامرات الدولية، النظام غير مقنع، وسخط الناس يتصاعد، والرد هو تصاعد القمع، المعصوميات سقطت، والرموز المعممة أهينت علناً، والازمات تراوح في مكانها والنظام يحكم رص الحلقات المستفيدة من أنتهازيين ومنتفعين، وسذج يلعبون على عقولهم، يسبون الشيطان الأكبر والأصغر، وفي الواقع يتحالفون معها، الهدف هو واحد، أحكام السيطرة على البلاد والعباد.
العالم الخارجي وشبكة العلاقات الدولية تدرك أن السيطرة على الشرق الأوسط إنما يتحقق عن طريق دعم الكيان الصهيوني والنظام الإيراني، هذا هو السبيل بإبقاء هذه الأفران موقدة لتلتهم خيرات هذه البلدان وهي ليست كثيرة. وليبقى صوتها منخفضاً ناعماً لا يطرح الحلول الحاسمة والجدية، لا توجد مشاريع طويلة الأمد، لأن لا أحد يضمن الغد وتطوراته.
الشعوب تريد أفقاً لمشكلاتها السياسية وهي كثيرة، وحلول لمشكلات ثقافية وهي أكثر، وحلول للمشكلات الاقتصادية وهي الأكبر، والمشكلات لا تحل بالتهجير والاجتثاث والتجريف، والسجون السرية وتصفيات، ولكن ستبرز مشكلات طابعها اقتصادي أجتماعي ثقافي وهذه لا تحلها الشفلات والبلدوزرات ...!
العالم يتغير، وحاجات الناس تتطور، ويكمن النجاح في فهم كنهة التطورات الدولية، وبروز قوى عالمية جديدة، وهناك علاقات دولية جديدة هي مطلب الشعوب ، نعم هناك مقاومة ضارية من الغرب والولايات المتحدة، ولكن ما بدأ سوف لن ينتهي .. بل ستواصل، وما أستحق الأفول .... سيأفل، ومن هنا أركز على أن حجم الدخل الأجنبي في وطننا العراقي والعربي، سوف تحكم نهاياتها بفعل حكم الحركة المادية للتاريخ، وهذه ليست دعوة للأسترخاء، بل للأنتباه بدقة شديدة، فالصفوف الأولى هي للمتفوقين من يتوصلون للحلول الناجحة، ويتمتعون بدقة التحليل القائم على أسس علمية.