مجزرة قصر الرحاب صبيحة ١٤ تموز ١٩٥٨ التي نفذها النقيب عبد الستار سبع العبوسي يرويها احد ضباط الحرس الملكي فالح حنظل
مجزرة قصر الرحاب صبيحة 14 تموز 1958 التي نفذها النقيب عبد الستار سبع العبوسي يرويها احد ضباط الحرس الملكي فالح حنظل
سيف الدين الدوري
عن مجزرة العائلة المالكة في قصر الرحاب يتحدث الملازم آنذاك فاضل حنظل الضابط في الحرس الملكي في مذكراته فيقول" في الساعة السادسة والربع تقريبا من فجر يوم 14 تموز كانت قوة المهاجمة لقصر الرحاب من حيث موجودها غير كافية لأن تصمد اكثر من خمس دقائق أمام قوة حراسة قصر الرحاب فقط حيث فتحت رشاشات المهاجمين نيرانها باتجاه القصر واصابت رشقة الاطلاقات الاولى نوافذ غرفة نوم الامير عبد الاله في الطابق الاول ثم كانت صلية ثانية حطمت زجاج النافذة الكبيرة في شرفة الطابق العلوي ثم صلية ثالثة وكل صلية من اربع او خمس اطلاقات، وهكذا اصيب حرس الباب النظامي لقصر الرحاب بالذهول وهم يسمعون طلقات الرصاص تفتح عليهم وخرج الحرس الخمسة ومعهم آمر نقطة الحرس ووقفوا يتطلعون مشدوهين الى الجنود المهاجمين الذين إمتدوا أمامهم على رصيف الشارع يطلقون النار عليهم.
كان الامير عبد الاله ما يزال في غرفة نومه وهو يكلم العقيد طه البامرني آمر لواء الحرس الملكي ليستفسر منه عن الموقف عندما اصابت الصلية زجاج نافذته فحطمته ، فاضطر ان يطلب من طه ان يحضر على عجل لمقابلته . ووقف الامير بباب غرفته وخرج الملك وهو ما يزال بملابس نومه وخرجت الامبيرات وتجمعن حول الامير هلعات خائفات واتجه الامير ووقف قرب النافذة يتطلع الى القوة المهاجمة ، ثم طلب من الملك والاميرات ألا يبقوا في الغرف الامامية وان يذهبوا جميعا الى غرفة الملكة نفيسة والدته واخذ الملك بيده ونزلوا الى الطابق الارضي.
أمر العقيد طه البامرني مراسله ان يذهب فورا الى المشاجب ويجلب له مسدسه وجعبة من العتاد كما امر النقيب سالم رشيد بفتح المشاجب وتوزيع السلاح على السرايا وتهيئة الفوج حيث لم يكن قد وصل الى الثكنة . وفعلا تم فتح المشاجب وتوزيع السلاح وهنا دلف النقيب ثابت يونس المرافق الخفر الى داخل قصر الرحاب ليجد الملك والامير ما يزالان بملابس النوم في غرفة الاستقبال فيما الامير يحاول الاتصال برئيس اركان الجيش دون جواب. ثم طلب من البامرني ان يخرج للاتصال بضابط القوة المهاجمة ويستقدمه الى داخل القصر ، كما طلب الامير من البامرني بعدم الرد على المهاجمين الذين ما يزالون في اماكنهم وعاد هذا وقال ان القوة المهاجمة قوامها عشرة جنود بإمرة عريف قد إتخذت مواقعها على مسافة مائة متروان عريف القوة المهاجمة اخبره بأنهم جاءوا الى هنا لقتل الملك والوصي فنصحهم ضابط صف الحرس بألا يقدموا على عمل مجنون كهذا.
في تلك الاثناء كانت ثلاث سيارات لوري عسكرية تتجه مسرعة توقفت امام بوابة قصر الرحاب يقودها النقيب عبد الستار سبع العبوسي القادم من معسكر الوشاش الذي جلب معه ععد من الجنود والضباط والاسلحة ومدفع بازوكا وفتحوا نيران رشاشاتهم على جنود حرس البتب النظامي . وكان النقيب عبد الله الحديثي قد اطلق او قنبلة بازوكا باتجاه القصر فاهتزت المنطقة كلها على دوي الانفجار بعد ان اصابة القذيفة الشرفة الامامية للطابق الاول واخترقتها الى الصالون الواقع في ؤمنتصف الطابق العلوي وانفجرت هناك. وبعد اقل من دقيقة اطلقت الثانية فاصابت احد الاعمدة الرخامية امام المدخل الرئيس للقصر وانفجرت ايضاً ثم قذيفة ثالثة هدمت جزءاً من باب الحرس النظامي الخارجي في الحديقة.
اما في قصر الرحاب فقد كانت أوامر الامير عبد الاله بعدم إطلاق النار ما تزال سائدة وفوج الحرس الملكي يقف برمته متهيئاً للقتال في إنتظار الاوامر التي ستصله من آمر الفوج الموجود في قصر الرحاب .وكان الملازم ثامر يتوسل الامير بأن يهر هو وفيصل معه بسيارته الخاصة ما دام القصر لم يتم تطويقه بعد وما دام طريق جسر الخر مفتوحاً ويؤدي الى الحدود العراقية الغربية حيث تقع المملكة الاردنية الهاشمية. ورد الامير بكلمات بسيطة " لا اريد قتالا حقنا للدماء" وانما يود ان يفاوض المهاجمين وانه يرغب في مغادرة البلاد. وطلب الامير من النقيب ثابت يونس بان يتوجه مرة اخرى صوب المهاجمين ويعلمهم برغبة الامير طلب التفاوض .
نزل الامير ومعه الملازم اول ثامر الى سراديب القصر وكانت الاسرة قد افترشت الارض وسرعان ما هبت النساء واقفات ورحن يسألن الامير عن الموقف في الخارج وماذا سيفعلون وطوقت الاميرة عابدية الملك الذي إنهارت قواه وخارت عزيمته وهو يتطله بعينين حائرتين زائغتين ويستمع الى صوت المذياع الترانسستور وهو يذيع أنباء الثورة والتعيينات والمناصب التي شملت في غلبيتها اسماء اصدقاء مخلصين للاسرة الملكة من ضباط حرسهم السابقين . وانزوت الملكة نفيسة والدة عبد الاله في ركن وفتحت القرآن الكريم وهي تتلوا "آية الكرسي" بصوت مرتفع وراح الامير يحاول تهدئة النساء ولم تفارق اللفافى شفتيه وهو ينفث دخانها بشكل متتابع وأنبأهم بأنه اوفد رسلاً الى القوة المهاجمة يعلمها رغبته بترك العراق وكانما كانت رغبة الامير بمغادرة العراق هي نفس ما يجيش في نفوس الاميرات اذ بانت الفرحة على وجوههن وهن يقلن للامير وهل سيفرج عنا ؟ هل سنترك القصر الان؟
وهنا فتح الباب اح سائقي السيارات الملكية المدعو عمران وهو يصرخ ويصيح باكيا متوسلا بالامير بأن الطريق ما يزال مفتوحاً وأنه يمكنه أن يهرب بهم او بالملك وحده باحدى سيارات الرولز السريعة الى حيث الحدود الاردنية الا ان الامير أجابه لقد ارسلنا من يفاوضهم ولا حاجة لان نهرب. سنترك العراق والتفت الامير الى الملك وقال له " حضر ورقة واكتب فيها تنازلك عن العرش وابقها لحين ىالحاجة".
في داخل القصر ارتفعت درجة الحرارة واشتدت على اثر إشتعال الطابق العلوي برمته وراحت ألسنة اللهب تزحف نحو السلالم المؤدية الى الطابق الارضي ولف الدخان الكثيف الهابط ارجاء الطابق الارضي وبدت بقع ملونة تظهر في سقف البناء وارتفعت درجة حرارة الجدران.
أما الاسرة الملكة فقد تركت السرداب الذي كانت تختبيء فيه منسحبة الى المطبخ الذي يقع ايضا في أقبية القصر وفتحت باب المطبخ الذي يؤدي الى فناء صغير محاط بسياج خشبي أخضر اللون ينتهي بالحديقة الجانبية للقصر حيث يوجد ممر صغير من اشجار واطئة الارتفاع ثم سياج سلكي عليه بالب من السلك يؤدي الى الاسطبلات والمرائب فثكنة نوم الجنود.
وفي المطبخ اجتمعت الاسرة ثانية وكانت الملكة الوالدة نفيسة ما تزال ترتل القرآن بصوت مسموع أما الاميرة عابدية فقد بدت مشعشعة الشعر مغرورقة العينين وهي تصرخ باخيها أن يجد طريقة لانقاذهم بينما جلس الملك على احد الكراسي ووقف الى جانبه الطباخ وبعض الخدم وهم في اقصى حالات الهلع.
وانهال الرصاص مرة اخرى وناقش الضباط مع الامير واطلعوه على حقيقة الحالة في الخارج وبعد دقيقة كان عبد الاله قد اتخذ قراره الاخير حيث التفت الى جميع الضباط ومن معه من افراد الاسرة وقال " طيب ابلغوا المهاجمين بأنني قررت التسليم وان الملك يتنازل عن العرش شرط ان يدعونا نغادر العراق واعطي عهدا بأن لا أعود اليه".
سمع الموجودون كلهم قرار عبد الاله بالتسليم والتنازل عن العرش وساد الوجوم وجوه الجميع وان بدا واضحاً ان الملك والاميرات قد استحسنوا القرار الذي طالما ارادوه.
وامر عبد الاله كلاً من الضابط محمد الشيخ لطيف وطه البامرني وثابت يونس بأن يذهبوا ليبلغوا هذا القرار الجديد للضباط لكي يكفوا عن إطلاق النيران.
وعندما خرج العقيد البامرني صحبة المقدم محمد الشيخ لطيف شاهدوا افرادا آخرين من الضباط والمراتب قد دخلو الحديقة واستتروا بالاشجار وتقدم عدد من الضباط ورشاشاتهم بايديهم صوب ضابطي الحرس وقال المقدم محمد الشيخ لطيف اننا لا نريد ان نقاوم فقط نريد ان نعرف مصير الموجودين داخل القصر وتقدم منه ضابطان فتوسل اليهم ان ينزلا الى المطبخ ويواجها الامير ويسمعا منه قراره بالتسليم والتنازل عن العرش، واخذهما بيده ونزل بهما درجات المطبخ وهناك واجه الضابطان الامير عبد الاله الذي كان يقف ولفافته بيده يدخنها وتكلم الامير بصوت به نوع من الصرامة والجدية موجها كلامه للضابطين قائلاً " إن كنتم طلاب حق وشهامة فإن هؤلاء الموجودين امامكم أمانة بأعناقكم لقد قرر الملك ان يتنازل عن العرش وستغادر العراق اذا سمحتم لنا بذلك". ولم ينبس الضابطان ببنت شفة وإستدار الى الخلف ثم التفت أحدهم قائلاً سأذهب لابلغ قراركم هذا الى الضابط في الخارج.
وبعد الساعة الثامنة صباحا بقليل فتح باب المطبخ وخرج منه الملك وامارات الرعب قد تجمدت على وجهه من هول الموقف وبدا مرتدياً ثوبا ذا كمين قصيرين وبنطالاً رمادي اللون وينتعل حذاءاً خفيفاً وخلفه سار الامير عبد الاله مرتدياً ثوبا وبنطالاً كذلك وقد وضع يده اليسرى في جيب بنطاله اما يده اليمنى فكانت ترفع منديلاً ابيضاً.
وزاحمت الملكة نفيسة ولدها الامير عبد الاله على درج المطبخ ووقفت وراء الملك ورفعت القرآن عالياً بيدها فوق رأسها وهي تصر باسنانها على اطراف الشرشف الذي يستر جسمها وخلفها سارت الاميرة عابدية وهي تنتحب وتولول ثم الاميرة هيام ثم احدى خادمات القصر المسماة رازقية والطباخ التركي وخادم آخر وإثنان من جنود الحرس تركا بندقياتهما في المطبخ.
خرج الجميع يتقدمهم المقدم محمد الشيخ لطيف والملازم اول ثامر خالد الحمدان وكان يقف في نهاية الرتل النقيب ثابت يونس.
وفي الباب كان العقيد طه البامرني ما يزال يحاول ان يهديء من سورة هيجان الضباط وخاصة النقيب مصطفى عبد الله الذي كان يرفع عقيرته بالصراخ( اخرجوا ايها السفلة .. ايها الخونة.. ايها العبيد) وخرج الجمنيع ليواجه نصف حلقة من الضباط وهم كل من النقيب مصطفى عبد الله ؟، النقيب سامي مجيد، النقيب عبد الله الحديثي النقيب منذر سليم النقيب حميد السراج الملازم اول عبد الكريم رفعت وعدد اخر من الملازمين والمراتب. ويقف خلف هؤلاء عدد آخر من الضباط والجنود وقد انتشروا في الحيقة وخلف الاشجار والى خلف هؤلاء من اليمين واليسار ، كانت الجموع الغفيرة من العساكر والناس تقف متفرجة.
خرج الملك فيصل وسرعان ما رفع يده بالتحية العسكرية للضباط الموجودين امامه وإغتصب إبتسامة رقيقة تراقصت على شفتيه وظهرت خلفه جدته وهي تحاول ان تجعل الجمع كله يشاعد القرآن بيدها وبعدها سار عبد الاله. وهو يتمتم ببضع كلمات غير مسموعة وهو يرى لاول مرة الضباط شاهرين رشاشاتهم بوجهه وتلفت يمنة ويسرة ليطمئن على زوجته واخته اللتين جفت الدموع في مآقيهما ولم تعودا تعرفان ماذا تقةلان او تفعلان وارتفع همس الملكة العجوز وهي تحاول أن تردد بعض الايات من القرآن الكريم.
في هذه الاثناء كان النقيب عبد الستار سبع العبوسي داخل قصر الرحاب فترك القصر ونزل هابطاً درجات الباب الامامية ورشاشته بيده واستدار الى اليمين فشاهد الاسرة المالكة كلها تسير في صف تاركة باب المطبخ وبعد اقل من نصف دقيقة كان النقيب العبوسي يقف خلف العائلة الملكة تماماً ويفصله عنهم خط شجيرات صغيرة على الارض وبلمح البصر فتح نيران رشاشه من الخلف مستديرا من اليمين الى اليسار فاصابت اطلاقات غدارته الثمانية والعشرون طلقة ظهر الامير عبد الاله ورأس ورقبة الملك وظهري الملكة والاميرة عابدية ، ثم لم يلبث ان فتح مصطفى عبد الله نيرانه من الامام على البشر الموجودين أمامه وفتح بقية الضباط المشكلين نصف حلقة نيران رشاشاتهم وجاءت النيران من الامام ومن الخلف ومن الجانب ومن كل يد تحمل سلاحاً في تلك اللحظة.
اصيب الملك بعدة طلقات فتحت جمجمته وسقط في احضان الاميرة هيام التي تهاوت ارضاً وقد أصيبت في فخذها وسقط عبد الاله قتيلاً وإنصبت عليه نيران اكثر من فوهة نارية وهو يتمرغ قتيلا على الارض. ونالت الاميرة عابدية ونفيسة حظهما من رصاص المهاجمين فتمرغتا ارضاً وهما تلفظان أنفاسهما الاخيرة وقتل الطباخ التركي وجرحت الخادمة رازقية وقتل احد الخدم واصيب النقيب ثابت يونس بطلقة نارية اخترقت رئته اليمنى ونفذت فيما اصيب النقيب مصطفى عبد الله بطلقة نارية في صدره وسقط ارضا واصيب ايضا النقيب عبد الحميد السراج. اما الاميرة هيام فقد تمكنت من الزحف الى ركن امين وتقدم منها ضابط وحملها بيده حيث اخفاعا في غرفة حرس الباب النظامي والدماء تسيل من فخذها.( فالح حنظل ، اسرار مقتل العائلة المالكة في العراق ، اول صفحة دامية في تاريخ العراق الحديث 14 تموز 1958 ، دار الحكمة ،الطبعة الثالثة 2008، ص99 -137)
حديث عبد الستار سبع العبوسي قاتل العائلة المالكة لمنذر الونداوي
يتحدث العقيد الطيار المتقاعد في مذكراته عن عبد الستار سبع العبوسي قاتل العائلة المالكة فجر يوم 14 تموز فيقول: بعد وصولنا الى مطار موسكوالدولي ،أسكنونا في فندق ( تورست) خاص بالاجانب ، وهو فندق بسيط ، وعلى غرار الفنادق العراقية في بغداد. بعد إستراحة قصيرة في الفندق مرّ علينا الرئيس ستار سبع العبوسي ( وكان يشغل منصب معاون الملحق العسكري) بالسفارة العراقية ،ودعانا للعشاء أنا ومنذر ، وقصدنا أحد المطاعم بموسكو فتناولنا وجبة طعام مع بعض المشروبات الفاخرة ، اذ كانت أمسية جميلة جداً.
وأثناء الحديث الذي كان يجري بين منذر وصديقه ستار سبع ، وكنتُ مستمعاً فقط. فقد كان منذر صديق ستار منذ فترة على ما يظهر .أما أنا ومنذر كنا في دورة في انكلترا من منتصف الخمسينات حتى بعد ثورة 14 تموز 1958 . وبعد رجوعنا الى العراق من انكلترا كان الرئيس ستار قد نقل الى موسكو ، وهو يستقبلنا بعد خروجنا من المطار ودعانا للعشاء كما ذكرت سابقا ولم يقبل إعتذار منذر منه وتأجيل الدعوة الى فترى أخرى. وأصر على أن نقبل دعوته. وفعلاً ذهبنا معه الى حيث دعانا الى مطعم من أفضل مطاعم موسكو .. وبعد إنتهائنا من تناول عشاء نا اللذيذ من الدجاج المشوي على الفحم . كانت وجبة جدا فاخرة ، وجو المطعم يبعث على الانشراح والبهجة.
وأثناء ذلك وإذا بمنذر يطلب من الاخ ستار أن يحدثنا عن دوره شخصياً بثورة 14 تموز .. وحاول المضيف الاعتذار إلاأن الحاح منذر عليه .. ورجائه أن يحدثنا بإختصار ..أخذ يقص علينا ما جرى من أحداث ،إلا أنني لاحظتُ على مدثنا علامات الحزن الشديد ،أثناء سرد الاحداث فاستمر قائلاً :
كنتُ آمر لدورة تدريب المشاة الاساسية في مدرسة المشاة بمعسكر الوشاش ، والقريب من قصر الملك ( قصر الرحاب) وكنتُ ضابط خفر ليوم 13 تموز 1958 ، وفي حوالي الساعة الخامسة والنصف حضرأحد الضباط المعلمين ، وأخبرني بوجود إنقلاب في بغداد ..أمرتُ جميع الدورة ضباط وضباط صف ،أن يتسلموا البنادق ويستعدوا .. سمعتُ لصوت رمي مستمر من ناحية قصر الرحاب .. وأخبرت الآمر الرئيس حميد السراج والمساعد محمد علي سعيد ، وطلبتُ رأيهم حول مساعدة القوة القائمة بالهجوم على القصر .. فأيدني جميع الضباط وضباط الصف عدا ( ضابط واحد رفض الاشتراك وهو الملازم فالح زكي حنضل) ذهبنا الى قصر الرحاب للمساعدة . عند وصولنا شاهدنا جنود منبطحين على الرصيف ، وقسم منهم أمام السياج قريب من الباب الوسطى للقصر .. فسألتُ الجنود المنبطحين عن إحتياجاتهم ، وذلك لعدم مشاهدتي معهم ضابط . فقالوا (أننا نحتاج الى مزيد من العتاد) فعدتُ الى المدرسة وكسرتُ مستودع ضباط الاعاشة الخاص بالعتاد ، وأخرجتُ بعض صناديق العتاد وعتاد مدفع (106 ملم) ووضعتها في سيارة حمل كبيرة ، ووضعنا المدفع داخلها ، وعدنا الى قصر الرحاب حيث سكن الوصي والملك فيصل الثاني ،أنزلتُ المدفع من السيارة ووضعته على الرصيف ، وباشرتُ بالرمي على قصر الرحاب ، وإختفى القصر عن النظر لكثرة الغبار والدخان. وبعد برهة شاهدتُ العقيد طه البامرني (آمر لواء الحرس الملكي) يخرج من الباب الوسطى وهو يصرخ ..إننا مستعدون للتسليم .. إننا مستعدون للتسليم. فأجبته أننا حاضرون لاستلامكم تفضلوا .. وفي أثناء ذلك وإذا بأحدهم يصيح ( جو.. جو) فالتفتُ الى الخلف فشاهدت عبد الاله والى يساره إمرأة عجوز ترتدي نظارة طبية والى يسارها الملك والى الخلف إمرأة شابة تلبس فستاناً أخضر وشعرها اصفر ، وكان خلفهم عدد من حاشيتهم يحتمون بهم وخلفهم بعض الضباط . وبينما تقربوا مني سمعتُ إطلاقات نارية إتجاهي ، فأجبت عليها بالمثل بصورة إنفعالية غير إرادية .. وعلى أثر ذلك سقط عبد الاله والملك والمرأة العجوز على الارض ومن خلفهم سقطوا جميعاً على الارض ..
سكت ستار ثم قال بحزن .. هذا ما حدث .. وكانت تبدو عليه علامات الكآبة والضيق .. وأردف الرئيس ستار مكملاً حديثه قائلاً: بعد فترة بضعة أيام لا أستطيع تحديد الفترة بدقة ..بدأتُ أعاني من حلم ( كابوس) مزعج ، كل ليلة في تمام الساعة الثالثة بعد منتصف الليل ، يظهر لي الوصي عبد الاله مرتدياً حلة بيضاء ، ويخاطبني بكلام لم أفهمه في البداية .ز ثم يختفي .. بعدها أستيقظ وأبقى حتى الصباح لا أستطيع النوم مرة ثانية ، فأذهب للدوام وأنا مهموم أفكر في الرؤيا ( الحلم) خاصة أخذ يتكرر كل ليلة ، وفي نفس الميعاد في تمام الساعة الثالثة بعد منتصف الليل. ثم تطور الحلم ، وأخذ يظهر الملك فيصل الثاني مع خاله الوصي عبد الاله ، وهما يرتديان البياض ، وبدأت أفهم كلام الملك وهو يقول : لماذا قتلتنا يا رئيس ستار ؟ ماذا عملنا لك حتى تقلتنا ؟ فأستيقظ مذعوراً ، ولا أجد أحد بجانبي. ثم إستمر الحلم يتكرر كل ليلة ، وأخذ يحضرون جميعهم ويصرخون بي : لماذا قتلتونا؟ لماذا؟ نحن كنا راحلين.
ذهبتُ الى مستشفى الرشيد العسكري ، وأعطوني العلاج وإجازة مرضية . ثم ذهبتُ وقابلتُ قسم من المسؤولين، وكان الاقتراح أن أترك بغداد ، وأذهب للعلاج بالخارج، وكان نقلي الى الاتحاد السوفياتي بالملحقية العسكرية بموسكو معاون ملحق عسكري للعلاج الطبي بنفس الوقت.. وأنا الآن مستمر بالعلاج بمستشفى خاص بالسلك الدبلوماسي .. ولم أشعر بأي تحسن.
سكت مضيفنا الرائد ستار سبع وظهرت عليه علامات الحزن ، وقال أنني لن أتخلص من هذا الكابوس أبداً.
علق منذر محاولاً التخفيف عن رفيقنا بأن الموضوع لا يتعدى حالة نفسية أشبه بالصدمة الوقتية ، تحتاج لفترة علاج أطول ، وحتماً بالأخير ستزول.
الرائد ستار لم يكن متفائلاً .أوة مقتنعاً .. قال لن أتخلص من هذا الكابوس ابداً.
حاول منذر أن يقنعه بأنه يبالغ بالموضوع ، وإذا إستمر يفكر بهذه الطريقة فلن يستفاد من العلاج .
قال لمنذر أرجو أن نغلق هذا الموضوع فإنه يؤلمني ولا أريد التحدث به أكثر ..
أنا بقيتُ صامتاً طيلة الفترة .
وهكذا فقد ذهبت أكبر قافلة من آل الهاشمي صرعى برصاص ثوار 14 تموز 1958 رحمهم الله جميعا.( العقيد الطيار فهد عبد الخالق السعدون ، مذكرات طيار، أحداث وعبر ، ص 81 -82).
وعن إنتحار عبد الستار سبع العبوسي يتحدث العقيد الطيار فهد السعدون فيقول:بعد هذه المسيرة الزمنية التي مرت بي ، وبعد إحالتي على التقاعد ومواجهتي حياة صعبة أخذتُ تدور في رأسي مرة ثانية ذكريات من الماضي عبر هذه المرحلة الشاقة، وأقارن بين ما أنا عليه في الوقت الحاضر وتدفعني الحقيقة التي هي لسان التاريخ ، وليس شخصي حين أتذكر كيف أن العائلة الملكية التي عملت في اقسى الظروف السياسية الدولية ، والتي كانت بريطانيا القوة العظمى التي لا يمكن مقاومتها . ورغم ذلك إستطاعت هذه الملكية والشخصيات السياسية المحنكة من إيجاد دولة العراق على الخارطة ، بحدودها واقليمها وجنسيتها وسيادتها. وأتذكر حتى الذي قام بقتل العائلة الملكية وهو المقدم عبد الستار سبع العبوسي ، الذي إلتقيته في عام 1962 في موسكو ، كما جاء في مذكراتي يكتب رسالة الى زوجته قبل إنتحاره في شباط 1970 يقول فيها" أنني أعتذر عن ما سوف أقدم به الآن وهي مسألة خطيرة .. الذين يزورونني في كل ليلة في منامي ، الوصي وفيصل والست نفيسة .. ووصلتُ الى باب مسدود ، حيث خارت مقاومتي والطريق الوحيد هو الانتحار .. فأعذروني وأرعي أطفالي من بعدي ، وأهدي سلامي لهم".( العقيد الطيار فهد عبد الخالق السعدون ، المصدر السابق، ص 184)
هل تعلمون بان الروح المظلومة تظل تطارد قاتلها حتى تقتص منه ؟ والدليل هو : وصف العقيد الركن ا...لمظلي عدنان محمد نوري مشاعر النقيب (العقيد الركن فيما بعد) عبدالستار العبوسي نحو الملك والعائلة المالكة ونهايتهم المأساوية بما يلي : بالرغم من ان العقيد الركن عبد الستار العبوسي لا يخفى على احد دوره في القضاء على العائلة المالكة الاّ ان الكثير لايعلم ماذا كان في خلجات نفسه من انفعالات قادته في النهاية الى الانتحار في شهر شباط من عام 1970. كان يقول لاصدقائه " اني لم اذق النوم منذ قتلي الملك ، وانه يأتي اليّ في المنام لابسا ابيض ويقول لي : لماذا قتلتني؟ هل اصابك ضرر مني؟ هل قمت بخطأ ما ؟
لماذا حرمتني لذة الحياة وانا في ريعان الصبا ؟) ويتكرر عليّ الكلام كل ليلة ولم اذق طعم النوم طيلة هذه الفترة فيا ليتني اموت واتخلص من معاناتي . انتقل العبوسي بعدها الى الكلية العسكرية معلما والتقيت به مرة واستفسرت عن احلامه فقال انها ازدادت وان عبد الاله الوصي ايضا اخذ يظهر لي في المنام وفي بعض الايام نساء لم اشاهدهن وهن يلمنني ويقلن لي : (انك تعيش واشباحنا ستطاردك حتى نلتقي ، فعجبا متى سألتقيهم وهل تعتقد ياعدنان بأنني سوف الاقيهم في الاخرة ؟) وكنت اهون عليه واقول له لماذا لاتطلب تعيينك في الخارج وعالج نفسك وانني اعتبر هذه الحالة مرضية فقال : (وهل تعتقد بأنني ارتحت عندما كنت في روسيا ؟ نفس الشيء كان يراودني) ، ثم بعد مدة التقيت به في البصرة وكان رئيس اركان البحرية وقد وجدت انه في حالة نفسية متردية للغاية وكان يهنئ كل شخص يسمع به قد مات ويقول : (اهنئه فقد تخلص من هذه الحياة) .
وبعد نقلي الى بغداد سمعت بأنه قد انتحر بمسدس صغير نمرة (5) كان قد اخذه من احدى غرف القصر الملكي صبيحة يوم 14 تموز 1958 !!! وقد حضرت تشييعه ، فالنقيب عبد الستار العبوسي انتحر لكي يتخلص من عذابه النفسي الذي رافقه منذ أن فتح النار على العائلة المالكة وارداهم جميعا قتلى . فعندما حلت الفاجعة قال له عبد السلام عارف : (عفارم زين سويت) ولكنه تركه للندم يأكله شيئا فشيئا ، فبقي طيف الملك يزوره كل ليلة ويسأل قاتله : (لماذا حرمتني من شبابي ؟ لم أؤذ أحدا يوما ! أنا الملك هل جنيت على أحد ؟ لماذا حرمتني من حياتي ؟) . كانت جدته الملكة نفيسة قد رفعت القرآن فوق رأسه وتوسلت بالجنود : (لا تقتلوه) ، لكن العبوسي أقبل كالمجنون فقتله وقتلها ثم .... قتل نفسه لاحقا!.