آلام مخاض الحكم الذاتي الكوردي
الفريق الركن
الدكتور عبد العزيز المفتي
آلام مخاض الحكم الذاتي الكوردي
الابتهاج الكوردي في الأشهر الأولى من الحكم الذاتي الكوردي 1970 تراجع تدريجياً ليفسح المجال لنظرة أكثر واقعية للعقبات الهائلة التي تعترض سبيل التجربة الناشئة. ولكن توازن القوى مع بغداد أتاح لتلك التجربة على الأقل فرصة للبقاء( ). إن أكثر ملامح الإدارة الكوردية بروزاً حقاً كان قيادتها الثنائية من قبل (حدك) و(أوك)، وهو ما جعل عملية صنع القرار أمراً متعباً إلى أبعد حد سيما وأنها كانت مشترطة بموافقة كلا الحزبين الكورديين. والأسوأ من ذلك أن الولاء لأحد الحزبين كان يسمو في بعض الأحياء على الولاء للحركة القومية الكوردية أو يعيق نشوء الديمقراطية. وكما وصفه أحد المراقبين بالقول: "بعد انتصارهما في انتخابات 1992 نشط الحزبان الكورديان في تأسيس شبكات المحوسبية على حساب تطوير نظام حكم أكثر ديمقراطية"( ). وقد اعتبر بعض الكتاب ذلك إرثاً للمنافسة القبلية في المجتمع الكوردي( )، فيما عزا كاتب آخر تلك الشبكات إلى "الانقسام بين المناطق الريفية والحضرية وبين منطقتي بادينان وسوران"( ).
بين الوحدة وقتال الأخوة:
إحدى القضايا الرئيسية كانت العلاقة بين جلال الطالباني ومسعود البارزاني. فبما أن أياً منهما لم يتمكن من ضمان أغلبية الأصوات في الانتخابات الرئاسية في 1992، فقد شرعا في تقاسم السلطة بشكل غير رسمي. والطالباني، الذي كان أكثر فصاحة وشهرة ودبلوماسية، أصبح وبشكل متزايد هو المسؤول عن إيجاد قنوات جديدة للكورد في الخارج وعن تعبئة الرأي العام الدولي لصالح قضيتهم. أما مسعود البارزاني، وهو الزعيم المهتم أكثر بالداخل، فقد ركز نشاطاته على القضايا المحلية. وقد ظهر التعاون بين الحزبين الكورديين بوضوح من خلال حضور الطالباني مؤتمر الحادي عشر للحزب الديمقراطي الكوردستاني الذي انعقد في أربيل في آب /أغسطس 1993، وأُعيد فيه انتخاب مسعود البارزاني رئيساً للحزب. وفي خطابه قال الطالباني أنه يأمل أن "يخدم المؤتمر أهداف حليفنا (حدك)" ويعزز "مكاسب الشعب في كوردستان المحررة"( ). والصفة المميزة لتلك الوحدة ظهرت لدى إعادة رفات الملا مصطفى البارزاني من إيران إلى كوردستان العراق في 6 تشرين الأول / أكتوبر 1993. وقد وصف أحد المراقبين الموكب المنتصر بقوله إنه "أقرب شيء إلى العيد القومي" حيث تجمع الكورد في كل مدينة وقرية لاستقبال الموكب( ).
مبدئياً انعكس اتفاق الأضداد بين الزعيمين إيجابياً على حزبيهما ودفع بالمجموعات الأصغر إلى الاتحاد إما مع (حدك) أو (أوك). ولهذا أعلن الحزب الاشتراكي الكوردستاني اتحاده مع (أوك) في 10 شباط / فبراير 1993 وذلك بعد أربعة عشر عاماً من الانفصال.
وعلى نفس الموال، في 28 تموز / يوليو 1993 أعلن حزب وحدة كوردستان الذي يتزعمه سامي عبد الرحمن اتحاده مع (حدك). إن اندماج جيوش حرب العصابات وكذلك البيشمركة ضمن قيادة موحدة كان يمضي قدما( ). وعلى نحو مماثل أفادت التقارير إلى أن الاتحادات التابعة للحزبين، التي تمثل الطلاب والعمال والفلاحين (عدا النساء)، قد اندمجت هي الأخرى( ).
تلك التطورات الأولية الإيجابية تعرضت للخطر مع اندلاع الاشتباكات بين (أوك) والحركة الإسلامية في كوردستان (ح ا ك) في تشرين الأول / أكتوبر 1993، والتي هددت لتشمل كامل المعسكر الكوردي. وقد تأسست الحركة الإسلامية في عام 1987، وهي نسبياً منظمة جديدة في كوردستان العراق، تحت قيادة الملا عثمان عبد العزيز وبدعم إيراني. وكانت الحركة تتألف من ثلاثة فصائل: فصيل الملا عثمان، وهو أكثرها اعتدالاً وأقربها إلى الحركة الكوردية، وفصيل علي بابير، وهو مجموعة متطرفة لها علاقات مع إيران والنظام البعثي، وفصيل ملا كريكار (نجم الدين فرج)، ويرتبط بعلاقات قوية مع أفغانستان، وفي عام 2001 أسس علي بابير وملا كريكار حركة أنصار الإسلام، التي تحدت كلاً من حكومة إقليم كوردستان والولايات المتحدة. وكان ابن عم مسعود البارزاني، الشيخ محمد خالد، وهو من أتباع الطريقة الصوفية النقشبندية، هو الآخر زعيماً لمجموعة أخرى هي حزب الله الكوردي الذي كان مدعوماً من إيران، وكان يشاع أنه على علاقة بالحركة الإسلامية في كوردستان( ).
وبحسب (أوك) الذي نشر كتاباً يحتوي على وثائق تعود إلى الحركة الإسلامية، فإن الحركة قد أقامت إحدى وخمسين قاعدة عسكرية داخل كوردستان العراق ووضعتها تحت تصرف الجيش الإيراني. وفضلاً عن إيران كانت الحركة تتسلم دعماً مالياً من باكستان وأفغانستان والسعودية والجزائر وتونس ولبنان، وصل في مجمله إلى (1.57) مليون دولار شهرياً. وبحسب (أوك) كذلك فإن المحاولات المتكررة لإشراك الحركة الإسلامية في الكابينة الوزارية ودمج ميليشياتها مع الجيش الكوردي في قيادة مشتركة كانت تقابل بالرفض من قبل الحركة. هذا علاوةً على أن (أوك) قد اتهمها بالسعي لتشكيل حكومة خاصة بها ضمن النظام الكوردي وإقامة السجون ونقاط التفتيش العسكرية على الطرق العامة وفرض الضرائب وحتى التدخل في منهاج المدارس. كما اتُهمت الحركة كذلك بأنها كانت البادئة بالاشتباكات المسلحة مع (أوك)( ).
في أعقاب الاشتباكات بين الجانبين، في تشرين الأول / أكتوبر 1993، التي تسببت في مقتل (50) شخصاً من كل جانب، اجتمع ممثلو الطرفين في أوائل تشرين الثاني / نوفمبر 1993 لتسوية خلافاتهما( )، ولكن مع ذلك اندلع القتال مرة أخرى في شهر كانون الأول / ديسمبر 1993 التالي. وكانت الاشتباكات من العنف بحيث أنها شملت مناطق واسعة من كوردستان بما فيها أربيل والسليمانية، وتسببت في مقتل (72) شخصاً وجرح (50) جريحاً( ).
وبنهاية 1993 أعلن (أوك) سيطرته على كامل مقرات الحركة الإسلامية في كوردستان واعتقال الملا عثمان عبد العزيز وإلقاء القبض على (200) من أعضاء الحركة ومصادرة أسلحتها.
إن المصادمات بين الحركة الإسلامية و(أوك) كانت مهمة من ناحية أنها أبرزت هذه المجموعة المتطرفة التي شكلت ظاهرة جديدة في كوردستان العراق، والتي أصبحت أداة بيد إيران في قتالها ضد الكيان الكوردي. وبعد عدة سنوات من الهدوء النسبي بين الفصائل الكوردية أظهرت تلك الاشتباكات صعوبة تشكيل حركة كوردية موحدة. كما كان هناك خوف حقيقي من أن يؤدي القتال الداخلي إلى تعريض القضية الكوردية على المستوى الدولي للخطر.
ومن أخطر عواقب تلك الاشتباكات كان النزاع الذي شمل الحزبين الرئيسيين (حدك) و(أوك) حينما حاول الأول (ح د ك) التدخل بين الحزبين المتناحرين - (أوك) والحركة الإسلامية. وفي فترة من ذلك النزاع عبّر مسعود البارزاني عن نقمته من عدم الالتفات إلى جهوده للوساطة، وألقى اللوم على (أوك) لأنه بدأ الاشتباكات في كانون الأول / ديسمبر 1993 حينما نقض الاتفاقية التي كان قد تم التوصل إليها مع الحركة الإسلامية في 25 كانون الثاني / يناير 1993. حيث صرح مسعود البارزاني قائلاً: "للأسف لقد سمعنا بحدوث اشتباكات جديدة حتى قبل أن يجف حبر الاتفاقية. ألا يعني هذا عدم احترام اتفاقاتنا وقراراتنا ومصالحنا القومية"؟. وفيما بعد أشارت التقارير إلى أن مسعود البارزاني منح ملاذاً للملا عثمان عبد العزيز( ).
في محاولة لاحتواء النزاع وتسهيل عملية صنع القرار في المعسكر الكوردي تمّ التوقيع على "اتفاق إستراتيجي" في 20 كانون الأول / ديسمبر 1993 بين مسعود البارزاني وجلال الطالباني. وركز الاتفاق على نحو خاص على أن نجاح الإدارة الكوردية واستمرار الاهتمام الدولي بالقضية الكوردية إنما يعتمد على "الحفاظ على وحدة الصف الكوردي". وتمّ التفاوض على النقاط التالية:
1. سوف ينضم الحزبان الكورديان إلى البرلمان والحكومة مناصفةً، والقرارات المهمة سيتم اتخاذها عن طريق الاتفاق الثنائي.
2. تجريم "الاحتكار" السياسي والتنظيمي في المنطقة.
3. الامتناع نهائياً عن حل الخلافات باللجوء إلى العنف.
4. لن ينضم أي طرف إلى أي حلف مضاد للطرف الآخر.
5. سيتفق الطرفان على سياسة واحدة مرنة إزاء دول الجوار وخاصةً تركيا وإيران وسوريا( ).
الاتفاقية لم تخدم سوى في إبراز الخلافات العميقة والمنافسات التي مازالت موجودة بين الحزبين الكورديين ولهذا فإن تجدد اندلاع الاشتباكات كان مجرد مسألة وقت.
بعد سنوات طويلة من الحرب ضد بغداد بدأ (حدك) و(أوك) الحرب ضد بعضهما البعض، واستمر القتال الداخلي على نحو متقطع حتى عام 1997. وقد انطلقت شرارة القتال في 4 أيار / مايو 1994، وشمل القتال كل مناطق إقليم الحكم الذاتي. والنزاع هذه المرة - والذي وصف بأنه الأسوأ منذ ثلاثين عاماً - شمل (حدك) و(أوك) والحركة الإسلامية بالإضافة إلى بعض المجموعات الصغيرة الأخرى( ).
وقد اندلعت الاشتباكات، التي بدأت في 1 أيار / مايو 1994، بسبب نزاع
على الأراضي في منطقة قلعة دزه شمال السليمانية( ). حيث اندلعت اشتباكات
بين بيشمركة (حدك) و(أوك) والحركة الإسلامية في كل مدن وقصبات كوردستان بما
فيها السليمانية ودهوك وأربيل، مقر البرلمان والحكومة الكورديين. وقد استخدم
الطرفان المتحاربان، اللذان بلغ مجموع مقاتليهما (6000) بيشمركة، الأسلحة الخفيفة والثقيلة في القتال. وفي أوائل أيار / مايو 1994 سيطر (اوك) على مباني البرلمان والحكومة في أربيل. وأصبحت المدينة مثار جدل حينما سيطرت قوات جلال الطالباني على المدينة (أربيل) في أوائل عام 1995. والمحاولات العسكرية والدبلوماسية اللاحقة من قبل (حدك) لطرد قوات جلال الطالباني من المدينة (أربيل) لاقت الفشل. وبحسب منظمة العفو الدولية، فقد اقترفت كل الأطراف انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان بما فيها التعذيب وإعدام السجناء( ).
ومما زاد الموقف سوءاً كان حقيقة أن جلال الطالباني، وخلال أشرس المعارك في أيار / مايو 1994، قد ذهب إلى سوريا، ولهذا لم يكن قادراً على كبح جماح رجاله، حتى وإن كان راغباً في ذلك. وبالفعل بدا الموقف في بعض الأحيان بعيداً عن سيطرة القيادة. وقد استمر القتال حتى بعد تمكن جلال الطالباني من دخول كوردستان في أوائل حزيران / يونيو واتفاقه مع البارزاني على وقف إطلاق النار.
وقد انعكس مدى اتساع القتال على ارتفاع عدد الإصابات في نهاية عام 1995، فقد وصلت الإصابات إلى ما يقرب من (2000) قتيل بعد اندلاع القتال للمرة الأولى في أيار / مايو 1994( ). واستمر الوضع الاقتصادي الضعيف أصلاً في التدهور أكثر. فإضافةً إلى الحصار المزدوج المفروض من قبل الأمم المتحدة وبغداد، صار مفروضاً على السكان الكورد التكيف مع حصار داخلي آخر فرضته القوى المتحاربة ضد بعضهما البعض( ). والأسوأ من كل ذلك كان التأثير السياسي. فقد محا القتال وبضربة واحدة ما كان قد تم التوصل إليه من مستوى من الديمقراطية والوحدة خلال العامين الماضيين عبر تأسيس البرلمان والحكومة الكورديين. إن احتلال البرلمان من قبل (أوك)، والذي وصفه مسعود البارزاني بأنه انقلاب عسكري( )، تسبب في شلّ كل من البرلمان والحكومة. وعوضاً عن ذلك توجه الوزراء والمسؤولون الحكوميون لأداء النشاطات الحزبية.
وأحد الأمثلة البارزة على ذلك كنت تجده في وزارة البيشمركة (أي الدفاع). فقد اعترف جبار فرمان، وزير البيشمركة وعضو في (أوك)، بأن القتال قد دمرّ وزارته حيث قسمت الحرب الوزارة إلى طرفين متحاربين. وترك جبار فرمان منصبه الوزاري وعاد إلى (أوك) في خطوة ضد (حدك) حيث صرح قائلاً: "كل وزير يعمل لصالح حزبه وكأنه ليس وزيراً في حكومة"، وأضاف أن اندلاع القتال قد دفع الناس إلى تسليح أنفسهم( ). وقد أدى القتال إلى تقسيم المنطقة إلى مناطق واضحة للنفوذ: (حدك) سيطر على المنطقة الشمالية المحاذية للحدود مع تركيا، و(اوك) سيطر على المناطق الحضرية والمقاطعة الشرقية التي تضم السليمانية بالإضافة إلى مدينة أربيل، فيما سيطرت الحركة الإسلامية على بعض المناطق في الشرق والجنوب قرب الحدود الإيرانية( ). وسارت الحرب جنباً إلى جنب مع حرب دعائية شرسة أدّت إلى زيادة الإضرار أكثر بالوحدة الكوردية. وشعر السكان الكورد بالإحباط الشديد من قيادته لتلك الانتكاسة التي أحاطت بتجربة الحكم الذاتي الكوردي في وقت كان فيه أعداء التجربة متلهفون لاستغلال ذلك النزاع.
جذور النزاع (من أجل السيطرة على منافذ الأموال)
يُرجع منظّرو النزاعات أسباب الحروب الأهلية إلى تركيبة من الإحباط
والفرص (بما فيها السيطرة على الأموال) وإلى ضعف في الهوية المشتركة( ). ويتطابق هذا النموذج على الحرب الأهلية الكوردية إلى حد معين.
وبالفعل فإن أخطر أسبابها كان عدم وجود حركة قومية كوردية قوية تتجاوز الولاءات الأولية والقبلية والمحلية. إن الصراع على السلطة بين الجماعات الكوردية، وخاصةً بين (حدك) و(أوك)، كان سببه غياب حركة قومية كوردية قوية، وكذلك عرضاً من أعراضه في نفس الوقت. كما لعب التنافس الشخصي دوراً مهماً في ذلك النزاع. ولهذا، وحتى عام 1975، كان جلال الطالباني قد أذعن لحقيقة أن الملا مصطفى البارزاني هو من يقود الحركة الكوردية، ولكنه وبعد انهيار الثورة صار يعتبر نفسه الزعيم الشرعي للحركة. وقد أدى ذلك إلى اصطدامه بمسعود البارزاني و(حدك). وفي عمق ذلك كله لا بد من المنافسة الدينية بين عائلتي البارزانيين والطالبانيين قد لعبت دوراً أيضاً. إذ يجب ألا ننسى أنهما تنتميان إلى طريقتين صوفيتين متنافستين: البارزانيون ينتمون إلى الطريقة النقشبندية والطالبانيون إلى الطريقة القادرية( ). ولم يبدأ الكورد أنفسهم، وكذلك المراقبون الأجانب أيضا، سبر أغوار التنافس بين الطرفين ومناقشة أسبابه وتأثيراته المستقبلية إلا بعد اندلاع الاشتباكات.
أرجع نوري الطالباني، وهو مثقف كوردي، أسباب الأزمة إلى عدم فاعلية البرلمان والحكومة اللذين تم استغلالهما من قبل (حدك) و(أوك)، ولهذا، وبدلاً من أن يكونا عامل توحيد للكورد، أصبحا متورطين في الصراع على السلطة بين الخصمين. ويذكر نوري الطالباني عدداً من إخفاقات حكومة إقليم كوردستان، وهي:
1. لم يتم في الواقع أبداً توحيد قوات بيشمركة (حدك) و(أوك)، بل ظلت القوات تتسلم أوامرها من قيادات (حدك) و(اوك).
2. بدلاً من التشارك بالمعلومات تحت رعاية وزارة الثقافة والإعلام، استمر (حدك) و(أوك) في إدارة قنواتهما التلفزيونية والمحطات الإذاعية الخاصة بهما.
3. لم يعلن البرلمان عن دستور للإقليم، وذلك رغم ازدياد الضغط عليه بعد تبنيه نظام الحكم بعد تشرين الأول / أكتوبر 1992.
4. لم تقم الحكومة بتطهير الجهاز الإداري من "عملاء" النظام العراقي من الكورد، الذين كان بعضهم قد اخترق حتى صفوف الأحزاب السياسية الكوردية.
5. لم تتمكن الحكومة من إنهاء ظاهرة قيام المدنيين الكورد بتسليح أنفسهم.
6. لم يتم إجراء تعداد عام للسكان لكي يصبح أساساً للانتخابات القادمة في 1995.
7. لم تقم الحكومة بمراجعة القانون السابق الذي منح نفس الصلاحيات لرئيس الوزراء ونائبه، وكل منصب كان يعود لأحد الحزبين، مما جعل من المستحيل على أحدهما إصدار أي قرار من دون موافقة الآخر( ).
وقد أدت سياسة التوازن هذه، باعتراف كل من مسعود البارزاني وجلال الطالباني، إلى شلّ عملية صنع القرار وزيادة التنافس بين الحزبين، ولهذا لم ينضم إلى بيشمركة الحزبين الوزراء فحسب بل انضم معظم أعضاء البرلمان أيضا كلٌّ إلى بيشمركة حزبه( ).
المشكلة الأخرى تمثلت في العتبة الانتخابية البالغة 7%، والتي أدت إلى إقصاء مجموعات سياسية مهمة عن العملية الديمقراطية، وخاصة الحركات الدينية التي كانت في سبيلها إلى الانتشار بسبب دعمها من قبل السعودية وإيران. ولهذا بدأت الجماعات التي ليس لها تمثيل برلماني بالسعي لعقد تحالفات مع أحد الحزبين الرئيسيين وذلك للحصول على النفوذ السياسي( ). وكان (حدك) و(أوك) متلهفين لجذب أكثر ما أمكن من تلك القوى السياسية إلى ظل نفوذهما. وهكذا أدت تلك التحالفات إلى تعميق التنافس والتنافس الحزبي بدلاً من أن تؤدي إلى بناء الوحدة.
الأمر المدهش كان العلاقات بين (حدك) و(أوك) والحركة الإسلامية. فـ(حدك)، الذي كان بمثابة الوسيط بين الاثنين الآخرين، انتهى به المطاف إلى عقد تحالف مع الحركة الإسلامية( )، وكانت لذلك التحالف نتائج بعيدة الأثر على كل من (حدك) و(أوك) والحركة الإسلامية حينما أصبحت الأخيرة شريكاً فاعلاً لـ (حدك) في حربه ضد (أوك). وقد رفض مسعود البارزاني طلب (أوك) إنهاء تحالف (حدك) مع الحركة الإسلامية وألقى باللوم على (أوك) "لإصراره على الطغيان وفرض نفوذه الأحادي على المنطقة الخاضعة لسيطرته"( ). وما لا يقل خطورةً عن ذلك كان اتهام (أوك) كلاً من (حدك) والحركة الإسلامية الكوردستانية (ح أ ك) باستلامهما الدعم من إيران في قتالهما ضد (أوك). وربما تكون عُرى ذلك التعاون الثلاثي قد تمّ توثيقها من قبل الشيخ محمد خالد البارزاني ابن عم مسعود البارزاني( ). ولكن مسعود البارزاني رفض تسلمه الدعم من إيران، رغم أن التقارير أشارت إلى قيامه بزيارة إلى طهران في تشرين الأول / أكتوبر 1994( ). وهكذا أبرز ذلك النزاع الثلاثي المشاكل العميقة الجذور التي تواجه إقليم الحكم الذاتي.
كما أن التقسيم الجغرافي إلى مناطق نفوذ صبّ هو الآخر الزيت على نار النزاع بين (حدك) و(أوك)، وقد ساهمت نتائجه في زيادة إضعاف الحركة القومية الكوردية ككل. منطقة نفوذ (حدك) كانت في المنطقة الشمالية من كوردستان المحاذية للحدود مع تركيا، بينما كانت منطقة نفوذ (أوك) هي تلك التي تقع في وسط كوردستان والمنطقة الشرقية المحاذية لإيران. وهذا التقسيم الجغرافي القديم للسلطة أخذت أهميته الاقتصادية والسياسية والإستراتيجية تزداد بعد إقامة منطقة حظر الطيران في الشمال. وفيما أخذت تركيا تتحول إلى شريان الحياة والمنفذ الوحيد لكوردستان، فإن (حدك)، الذي كان يسيطر على طرق يصل طولها إلى 100 كليومتر في المنطقة المحاذية لتركيا، أصبح يتمتع ببالغ الأهمية. وبالفعل كان (حدك) يسيطر على المصدر الوحيد للعملة الصعبة في كوردستان العراق، طالما انه كان يستحصل الضرائب الجمركية من البضائع الداخلة من معبر إبراهيم الخليل الحدودي في زاخو، لقد صرح مسعود البارزاني أن الرسوم الجمركية هي مصدر الدخل الرئيسي الوحيد لكوردستان. وما يقرب من 700 شاحنة تركية محملة بالبضائع إلى العراق تجتاز المنطقة يومياً مثّلت فعلاً تعزيزاً كبيراً لنفوذ (حدك) الاقتصادي والسياسي( ). ومن هذا الجانب فإن موقف (حدك) يتطابق مع نموذج أسباب الحروب الأهلية الذي أشرنا إليه سابقاً - فقد استغل الموقف (أي بمعنى آخر، الأموال). وقد وضع هذا الأمر (أوك) في موضع من الحرمان الشديد في مواجهة (حدك) لأن الموقف قيّد علاقاته المستقلة مع العالم الخارجي بشكل خطير. والذي لم يكن يقل خطورة عن ذلك كان حقيقة أن الترتيب الجغرافي قد حرم (أوك) من مصدر مهم من مصادر الدخل، الذي كان (حدك) متردداً في أن يشاركه مع أحد، وهو ما أضاف سبباً آخر من أسباب الاحتكاك بين الحزبين. وكأن تلك الحرب الداخلية لم تكن كافية لتندلع حرب أخرى عبر الحدود ضد PKK التركي.
( 1) السفير، 2 و 3 آب / أغسطس 1994، وقد نقلت عنها الديلي ريبورت في 10 آب / أغسطس 1994، الحياة 1 و 30 تشرين الأول / أكتوبر 1994.
الفريق الركن
الدكتور عبد العزيز المفتي