تخريجة الاعتداء على المدنيّين
د. علي محمد فخرو
تخريجة الاعتداء على المدنيّين
ها هي دوائر الغرب الاستعمارية والاستخباراتية تنجح من جديد في مهزلة التلاعب بالألفاظ التي برعت فيها عبر القرون. فهي تصف رد الفعل الفلسطيني تجاه عقود من الإذلال والحصار، وسرقة الأرض وما عليها، وتهجير ملايين الفلسطينيين خارج أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم... تصف ذلك باعتداء إرهابي ضد مدنيين عزل.
فهل حقاً أن الجيوش الجرارة من الذين جاءت بهم الحركة الصهيونية العالمية، بمباركة ومعاونة مالية وتسليحية من بعض دول الغرب الاستعماري، ليقتحموا البيت الفلسطيني ويقيموا المستعمرات المدججة بالسلاح، ويحاصروا، مثلا، غزة سنة بعد سنة، ويمنعوا عن أهل البيت الماء والغذاء والدواء والكهرباء متى شاؤوا وكيفما شاؤوا، ويمنعوا التعليم عن أولاد البيت أحياناً كعقاب وأحياناً كنكاية، ويأخذوا الأرض الزراعية المحيطة بغزة ويحرثوها والبنادق فوق أكتافهم أو يستعبدوا أهل غزة ليقوموا بحرثها كعبيد مطأطئي الرؤوس من أجل لقمة عيش مذلة... هل هؤلاء حقاً يمكن وصفهم، زوراً وبهتاناً، وكذباً ونفاقاً، وتلاعباً حقيراً بالألفاظ، بأنهم مدنيّون عزّل؟
ومن يقود تلك الحملة الجائرة ويجيِّش كل القوى الإعلامية الصهيونية وأنصارها من الانتهازيين لطمس الحقائق، لجعل المجرم القاتل ضحية والضحية المتهالكة هي المجرم؟ إنها الولايات المتحدة الأميركية التي يعطي دستورها الحق لصاحب كل بيت ألا يسمح لأي متطفل حتى بالمرور في أرض بيته أو أملاكه، بل والحق في أن يحذره مرة واحدة، فإذا لم يستجب ويخرج من أرضه يطلق عليه النار من بندقيته ويرديه قتيلاً. هناك يعتبرون الدفاع عن ملكية صغيرة في شكل بيت أو مزرعة وقتل حتى من يجرؤ على أن يدخلها بالغلط هو حق دستوري مشروع، وهنا في فلسطين يعتبرون مقاومة سرقة وطن بكامله إرهاباً ضد مدنيّين.
ولكن هل هناك غرابة في ذلك؟ ألم يعتبر المجتمع الأميركي فيما مضى راعي البقر الكاوبوي، الذي يذهب إلى الغرب الأميركي، ويخرج الهندي الأحمر من أرضه تحت تهديد السلاح بطلاً مغواراً؟، بل ويعتبر قادة ذلك المجتمع أن ذلك ما هو إلا استجابة لأوامر المسيح بتطهير أميركا من الهنود الكفار ليحل محلهم المؤمنون الغزاة الأنجلوسكسون؟ ألم تتهم الهندي الأحمر بالإجرام والتوحش والإرهاب إذا تجرأ ودافع عن أرضه وعرضه؟
والأمر نفسه ينطبق على ما فعله المستعمرون المستوطنون الفرنسيون في المغرب العربي... فدفاع أصحاب البلاد كان يعتبر اعتداءً على مدنيين مسالمين (حتى ولو كانوا مدججين بالسلاح ومن القتلة وحثالات الأرض). والأمر نفسه فعله الاستعمار الانكليزي في الهند: يسرق وينهب ويذل، حتى إذا ما تجرأ غاندي على المقاومة اعتبر إرهابياً في ثوب رجل كاهن.
والواقع أن هذا العالم، وعلى الأخص العرب والمسلمون، قد ملّ وهو يرى الغرب الاستعماري يتعامل معه كما تتعامل بائعة الهوى مع محيطها. فأمام مرآتها أنواع من المكياجات. فإن أرادت الذهاب إلى حانة لتغوي وضعت مكياجاً معيناً. وإن أرادت أن تتظاهر بامتلاكها العفة وتذهب يوم الأحد للكنيسة وضعت مكياجاً آخر. وهكذا هناك مكياج أمام مرآتها لألف موقف. لا خجل ولا ضمير ولا قيم. هناك فقط لذة الإغواء والابتزاز والنفاق.
والآن، ونحن نرى رئيس دولة مخرّفاً، ورئيس وزراء دولة لم يقرأ تاريخ البلاد التي جاء منها حتى يبقى انتهازياً مقبولاً في البلاد التي هاجر إليها، ورئيس دولة لا تهمه حتى مشاعر الملايين ممن أصولهم مغربية إسلامية، نرى هؤلاء يذهبون ليقبلوا وجنة المجرم ويذرفوا دموع الكذب والنفاق ويتحسروا على موت من يدعون بأنهم من المدنيين العزل من المستوطنين السارقين لأرض غيرهم، الحاملين لأفتك الأسلحة، المذلين لكل ذرة في الفلسطينيين... يتحسرون على أولئك، ولكنهم لا يذكرون ولا بكلمة تعاطف واحدة الضحية الحقيقية، ولا يرف لهم جفن لبكاء ما بقي من نتف جثث أطفال غزة.
لا، ليس المستوطنون المحيطون بغزة من المدنيين، إنهم جزء من جيوش المرتزقة الذين عبثوا بفلسطين طيلة العشرات من السنين. وإذا كنتم، يا رؤساء الغرب، لا تعرفون الفرق بين المدني المسالم والمستوطن المعتدي فارجعوا إلى مفكريكم عبر تاريخكم الطويل. ولكن لا ترجعوا إلى أمثال مكيافيللي، بل اقرأوا ما كتبه أمثال برتراند رسل وشومسكي وغيرهما من أحرار الغرب غير الاستعماري، بمن فيهم الكثير من الأحرار اليهود الرائعين.
يوجع قلبنا أن نتحدث هكذا عن ثقافة غربية رائعة، تعلمنا منها الكثير. لكن بعضاً من ساسة الغرب دمروا تلك الصورة وشوهوا صورة ذلك الغرب الجميل، وقلبوه إلى غرب قبيح انتهازي صهيوني حتى النخاع.