نحن وإيران الحلقة الثالثة
د.عدنان هاشم
نحن وإيران الحلقة الثالثة
الفتوحات اإلسالمية للعراق وبلاد فارس
تأتي أهمية هذه الفتوحات اإلسالمية في العراق وبالد فارس أنها قضت على الامبراطورية الفارسية تماما، وبذلك بدأت جذور العداء العربي الفارسي الذي نرى آثاره إلى يومنا هذا. أحاول في هذه الحلقة أن أسلط الضوء على هذه الفتوحات وما اكتنف سردها من قبل المؤرخين من ضعف وقوة. وسوف أقتصر في هذه الحلقة على ذكر المعارك الكبرى دون الصغيرة منها التي انتهت بفتح العراق وإنهاء الحكم الفارسي فيه.
كانت الظروف مواتية جدا للفتح اإلسالمي للعراق. فقد مرت الامبراطورية الفارسية بحالة ضعف شديد في السنوات
الاخيرة من البعثة النبوية، كانت الحرب سجاال بين الروم والفرس والتي أضعفت الطرفين، وكان آخرها المعركة الكبرى التي دارت بين الجيش الفارسي والجيش البيزنطي بقيادة هرقل ملك الروم في أواخر سنة 627 للميالد بالقرب من نينوى، والتي انتصر فيها الروم انتصارا ساحقا واستعادوا الشام من الفرس. كانت هذه المعركة بداية النهاية لملك الساللة
الساسانية، ففي خالل ست سنين ما بين 628 إلى 634 للميالد توالت التصفيات الدموية بين أفراد العائلة المالكة، حيث أقدم شيرويه على قتل كسرى أبيه وبعدها قتل جميع أخوته وأهل بيته البالغ عددهم سبعة عشر أميرا لئال ينافسوه في الحكم، واستمرت التصفيات الجسدية في البيت المالك، وفي تلك األثناء حدثت معركة ذي قار بين العرب والفرس التي هزم فيها الفرس والتي نبهت العرب على ضعف الدولة الفارسية وإمكانية هزيمتها فكان المسلمون يترقبون األحداث فكان
أحد نتائج هذا الضعف هجوم جحافل المسلمين على العراق في خالفة أبي بكر الصديق... لم يبق أمام قادة الفرس أخيرا الا إحدى بنات كسرى لينصبوها ملكة عليهم. ثم وجدوا فيما بعد شابا من آل كسرى ال يتجاوز عمره إحدى وعشرين سنة وقد خبأته أمه عندما كان طفال خشية القتل وكان ابنا لشهريار أخي شيرويه، فنصبوه ملكا على بالد فارس والعراق باسم كسرى يزدجرد الثالث وكان ذلك عند اجتياح المسلمين للعراق.
في السنة الثانية عشرة للهجرة في خالفة ابي بكر وبعد انتهاء حروب الردة أوعز الخليفة إلى المثنى بن حارثة الشيباني لمهاجمة الفرس، كان المثنى من رؤساء قبائل بكر بن وائل الذين سكنوا الحدود الغربية الجنوبية للعراق، وكان فارسا شجاعا وعارفا بأحوال الفرس والعراق، وقد أسلم زمن النبي وكانت له صحبة قصيرة. عسكر المثنى على حدود العراق لمدة تقرب من السنة وكان يشن الغارات على أطراف العراق ويستولي على المحاصيل الزراعية من الحنطة والشعير والماشية من الغنم والبقر من سكان القرى اآلمنين، فضج األهالي وارتفعت الشكاوى إلى كسرى الذي أمر بتجهيز جيش
من الفرس لقتالهم. نرى أن سلوك المغيرين لم يكن لنشر الدين الحنيف بقدر ما كان الهدف منه الحصول على الغنائم من
الاهالي االاأن بعث بمدد من المقاتلة العرب مع خالد بن الوليد لنجدة المثنى وأصحابه. كان خالد قائدا عسكريا شجاعا ال شك، ولكنه كان يميل إلى القسوة المفرطة مع أعدائه وقد عرف عنه ذلك منذ عهد النبي، فقد قتل في زمن النبي جماعة من بني خزيمة رغم أنهم كانوا على اإلسالم وحتى قال النبي " اللهم إني أبرأ إليك من فعل خالد" ودفع لهم الدية وأرضاهم.. وكذلك قتل خالد مالك بن نويرة سيد بني تميم في حروب الردة رغم أنه كان على اإلسالم ودخل على زوجته في تلك الليلة حتى طالب المسلمون أبا
بكر بإقامة حد الزنا على خالد ، ولكن أبا بكر رأى أن يعفو عن فعل خالد آنذاك فعطل حدا من حدود هللا. واتضحت قسوة خالد وإسرافه في سفك الدماء في حروب الردة حتى قال عنه عمر" إن في سيف خالد رهقا " . ولكن قول عمر لم يغير شيئا حول خالد في خالفة ابي بكر.
معركة اليس
اتضحت قسوة خالد في حروبه مع الفرس في معركة أ 12 للهجرة التي هي موضع في البادية قريبة من أرضالسماوة، استبسل الفرس في القتال وصبروا عليه، حتى قال خالد " ما لقيت قوما كقوم لقيتهم من الفرس وما لقيت من أهل اليس فحلف خالد إن أظفره هللا بهم ليجرين من دمائهم نهرا. وقد انكسر الفرس لسوء حظهم في تلك المعركة وكان عدد األسرى كبيرا جدا، فأمر خالد بقطع أعناق األسرى يوما وليلة برا بقسمه في أن يجري من دمائهم نهرا حتى ضج بعض الصحابة وقالوا له " لو قتلت أهل األرض لم تجر دماؤهم فأرسل عليها الماء تبر يمينك" ففعل خالد ذلك فجرى الدم في الماء وسميت تلك المعركة نهر الدم.
ثم فتح خالد بعد ذلك الحيرة التي كانت عاصمة المناذرة والذين باد ملكهم بعد مقتل آخر ملوكهم النعمان بن المنذر.
معركة ذات العيون:
توجه خالد بجيشه بعد ذلك إلى األنبار على الضفة اليمنى لنهر الفرات لفتحها، فالتقى بجيش الفرس فأمر خالد جنوده أن يرشقوا الفرس بالسهام ويصوبوها نحو عيونهم. يذكر ابن األثير أنهم أصابوا ألف عين لجنود الفرس. ال بد أن التأثيرالنفسي لفقأ العيون كان كبيرا جدا مما أدى إلى انهيار معنويات المقاتلة الفرس، حيث طلب قائد الفرس الصلح ووافق على
شروط اشترطها المسلمون وبهذا فتحت الانبار.
وبعد ذلك توجه خالد لفتح عين التمر. فحارب فيها الفرس وحلفاءهم من العرب النصارى وانتصر عليهم وقتل كثيرا من
الاسرى عربا وفرسا. ودخل المسلمون كنيسة كانت هناك فوجدوا فيها أربعين غالما يدرسون اإلنجيل فاقتسموا الاسرى وكان منهم من نبغ اسمه في اإلسالم منهم سيرين والد محمد بن سيرين ونصير والد القائد األموي موسى بن نصير ويساروالد الحسن البصري. وقد جاء بعد حين من هذه المعركة رسول أبي خالدا أن يتوجه إلى الشام مددا للمقاتلة المسلمين فيبكر يأمر حربهم مع الروم. فترك العراق وكان بعده المثنى بن حارثة قائدا لجيوس المسلمين.
معركة قس الناطف (معركة الجسر):
جرت أحداث هذه المعركة سنة 13 للهجرة على نهر الفرات وقد عبأ لها الفرس أفضل مقاتليهم والفيلة التي يركبها المقاتلة يتقدمهم الفيل األبيض، وكان قائد الفرس بهمن جاذويه عسكريا محنكا عالما بأساليب الحروب وكان يسمى ذوالحاجب؛ إذ كان يضع عصابة على جبينه يرفع بها حاجبيه، وكان على رأس جيش المسلمين أبو عبيد بن مسعود الثقفي.
كان أبو عبيد كثير الحماس مندفعا لقتال الفرس ولكنه لم يكن يحسن تقدير العواقب فعبر بالمسلمين نهر الفرات نحوالجيش الفارسي رغم تحذير قواده من ذلك والتقى الجيشان ولعبت الفيلة دورها في بث الذعر بين المسلمين. ثم أن الفرس قطعوا حبال الجسر )وقيل قطعه بعض المسلمين ليمنعهم من الفرار( فلما أراد المسلمون االنسحاب وجدوا الجسر قد قطع فقتل عدد كبير منهم ومات بعضهم غرقا ومات أبو عبيد متأثرا بجراحه حيث أن أحد الفيلة قد وطأه بقدمه فمات رحمه هللا إثر ذلك. تمكن المسلمون تحت قيادة المثنى أخيرا من إصالح الجسر وعبروا إلى الضفة األخرى للفرات، كانت تلك
المعركة انتكاسة كبيرة لهم في هذه الحروب ولكنهم لم يهزموا وجاءهم النصر أخيرا.
معركة البويب / سنة 13 للهجرة:
سمع الفرس باإلمدادات القادمة التي أرسلها الخليفة عمر من المدينة فعزموا على حرب المسلمين فحشدوا كل قواهم من مقاتلة وسالح وفيلة، فالتقى الجيشان في موضع يقال له البويب وهو قريب من الحيرة، وكان قائد جيش المسلمين المثنىبن حارثة ة فدارت معركة دامية بين الطرفين قتل فيها قائد جيش الفرس وكانت مقتلة عظيمة للفرس قدر عدد قتالهم بمئة ألف، وإن كان هذا الرقم مبالغا فيه، وقد مهدت هذه المعركة لفتح المدائن. توفي المثنى فيما بعد متأثرا من جراح حاقت بهفي معاركه التي خاضها مع الفرس.
معركة القادسية /سنة 15 للهجرة:
فتح عمر الباب أمام العرب الذين ارتدوا في زمن أبي بكر بااللتحاق بالجيش اإلسالمي، وكان أبو بكر قد منعهم من ذلك فكانوا مددا كبيرا للمقاتلة في العراق. كان قائد هذه المعركة سعد بن أبي وقاص الذي عسكر في القادسية فنزل في قصر فيها ومن هناك كان يصدر أوامره للمسلمين، أرسل سعد بعض المسلمين ليغيروا على سكان السواد فيسلبوا منهم المحاصيل والبقر والغنم وما يقدرون على حمله، فذكرت هذه الغ ارات أهل العراق بما فعله المثنى وجيشه في األشهر الأولى لفتوح العراق، ومن طريف ما يروى أن بعض المسلمين ذهب إلى ميسان لينهب غنما وبقرا فلم يجد شيئا فسأل
عنها بعض السكان فأنكر وجودها، وهنا رفع ثور رأسه وقال" كذب عدو هللا ها نحن " فاستاقوا البقر والغنم. قد علمنا أن الأنبياء مؤيدون بالكرامات والمعجزات ولكن ما معنى أن تجري معجزة على أيدي سالبين ينهبون العباد الأمنين!
وصلت الشكوى إلى ملك الفرس كسرى يزدجرد الذي عين رستم قائدا لحرب المسلمين وكان من خيرة قواد الفرس حنكة وخبرة. وقد بعث سعد برجال من المسلمين لمقابلة كسرى يزدجرد فقام أحدهم ويدعى المغيرة بن زرارة فكلم كسرى قائال له في كثير من الغلظة " إختر إن شئت أن تدفع الجزية عن يد وأنت صاغر وإن شئت فالسيف أو تسلم فتنجي نفسك"
فغضب كسرى وقال له: لو أن الرسل ال تقتل لقتلتكم، ال شيء لكم عندي، ارجعوا إلى صاحبكم فأ علموه أنني مرسل غليهرستم حتى يدفنه ويدفنكم معه في خندق القادسية. ال يمكن أن نتصور أي ملك عظيم مثل كسرى لديه شيء من كرامة أن يخضع بالتهديد لمثل هذا الطلبات من أعرابي غليظ جا ف ال يحسن الكالم مع الملوك. ودارت معركة هائلة في القادسية قتل فيها من الفرس أعداد غفيرة وقتل فيها رستم قائد الفرس وهرب الباقون. وصار الطريق مفتوحا أمام المسلمين للدخول إلى المدائن فدخلوها سنة 16 للهجرة وأقاموا الصالة في القصر األبيض الذي كان فيه إلى األمس القريب كسرى
يزدجرد.
معركة جلولاء/سنة 16 للهجرة:
هرب كسرى إلى حلوان في المنطقة الجبلية الغربية لبالد فارس ومن هناك جهز جيشا كبيرا لحرب المسلمين فكانت تلك فرصته األخيرة الستعادة ملكه أو خسارته إلى األبد. فالتقي الجيشان في جلوالء شرق العراق ودارت معركة رهيبة قدرالمؤرخون القتلى فيها بمائة ألف قتيل، وسميت أرض المعركة جلوالء حيث جللت األرض بالقتلى. وقد توفي قائد جيش المسلمين النعمان بن مقرن المزني على أرض المعركة متأثرا بجراحه. كانت هذه المعركة خاتمة المعارك في فتوح العراق إذ منع عمر المسلمين من التقدم داخل بالد فارس، إذ أدرك مدى اإلرهاق الذي لحق بجيوش المسلمين نتيجة المعارك المتالحقة وشدة قتال الفرس في الدفاع عن أنفسهم فكان مما قاله " ليت بيننا وبين الفرس جبال من نار ال ينفذون إلينا وال ننفذ إليهم" .
ولكن حدثت معركة نهاوند بين الفرس والعرب المسلمين بعد معركة جلوالء بعدة سنوات في داخل بالد فارس سنة 21 للهجرة والتي كانت فاتحة الستسالم بالد فارس بأكملها إلى سلطان اإلسالم حيث سماها المسلمون " فاتحة الفتوح" . حشد كسرى خمسين ومئة ألف مقاتل من الفرس في نهاوند لقتال المسلمين، فهزم الفرس رغم ما أبدوا من شجاعة وصبرعظيمين في الدفاع عن بالدهم. فكان لسان حالهم كما قال الشاعر العربي:
وما إن طبنا جب ٌن ولكن منايانا ودولة آخرينا
أما كسرى يزدجرد فلم يكن جبانا وال رعديدا وكان عنيدا في قتاله للمسلمين ، طموحا في استرداد ملكه، ولكن ال راد ألمر هللا " فقد صار طريدا بعد معركة نهاوند يتنقل من بلد إلى بلد في بالد فارس الواسعة حتى نزل على طحان فقتله غيلة وسلب ما كان عليه من الجواهر وفاخر الثياب وكان ذلك في سنة 30 للهجرة في زمن خالفة عثمان بن عفان وبذلك انتهت الساللة الساسانية إلى األبد " قل اللهم مال َك بالملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير".
في الحلقة التالية سوف ننظر في هذه الفتوحات الفاصلة باالستقراء والتحليل لنستنبط العبر من أحداث التاريخ
18 حزيران 2024
المصادر: الكامل في التاريخ، ابن األثير
البداية والنهاية، ابن كثير الدمشقي
معجم البلدان، ياقوت الحموي
الأجتثاث في التاريخ العراقي، باقر ياسين
A short history of the Saracens, Amir Ali