العرب السنة في العراق وأزمة القيادة
قاسم محمد داود
العرب السنة في العراق وأزمة القيادة
لم يكن السنّة العرب في العراق غائبين تماما عن المشهد السياسي العراقي المتداخل، بعد الغزو الأميركي للعراق وسقوط نظام صدام حسين في 9 نيسان/ ابريل 2003 ولا أبرياء من المشاركة في صنع تفاصيله السلبية، بل كانوا ممثّلين بطبقة سياسية تميّزت أساسا بالانتهازية، بحيث انصبّ اهتمامها على تحصيل المصالح الشخصية والمنافع الذاتية أكثر من الدفاع عن مصالح المكوّن الذي ظل في واقع الأمر متروكا لمصيره يعاني التهميش وانقطاع حركة التنمية بشكل كامل في مناطقه التي تحوّلت بفعل فقرها إلى مرتع للتشدّد الديني وحاضنة لتنظيم القاعدة ثمّ تنظيم داعش الذي جرّ الويلات على مناطق السنّة وحوّلها إلى مسرح حرب ضارية اجتذبت الميليشيات الشيعية الباحثة أصلا عن سبب وذريعة لدخول تلك المناطق والتنكيل بأهلها واستباحة ممتلكاتهم وصولا إلى طردهم من مناطقهم وتغيير تركيبتها الديموغرافية كما هي حال منطقة جرف الصخر جنوبي العاصمة بغداد التي استولت عليها الميليشيات الشيعية بالكامل، مما يعني أن السنة العرب بحاجة إلى تصحيح المسار وتخطي هذه المرحلة واجتيازها قبل فوات الأوان لاسيما وأن ما حدث فتح الباب واسعاً أمام أزمة في القيادة السنية على وقع غياب أسماء لامعة وانزواء أخرى أو غياب قسري فرضته إجراءات اجتثاث حزب البعث بعد أن أصدر بريمر في 15 مايو/أيار 2003 قراره الأول بحل حزب البعث، ومنع أعضائه في المستويات الأربعة التنظيمية القيادية من تولي مناصب حكومية، وهو ما أطاح عمليا بكبار الموظفين من كافة مؤسسات الدولة. وتولت لجنة اجتثاث البعث بقيادة أحمد الجلبي، المعارض الشيعي، فحص شاغلي المناصب في المستويات الإدارية العليا الثلاثة في أي وزارة أو مؤسسة حكومية بما فيها الجامعات والمستشفيات. وقد اتُّهمت اللجنة بغض الطرف عن الموظفين الشيعة، وإقصاء الموظفين السنة، ليصبح مصطلح اجتثاث البعث مرادفا لإقصاء السنة. وأضيف له بعد رحيل بريمر الإقصاء العشوائي على خلفيات مذهبية، وخصوصاً إبان حقبة رئيس الوزراء الاسبق نوري المالكي.
تعكس الاستحقاقات السياسية بعد كل انتخابات شارك فيها المكون العربي السني منذ أول انتخابات في سنة 2005 وحتى 2021، بروز جيل سياسي من الشخصيات السنية التي سرعان ما تنطفئ بعد انتهاء الدورة التشريعية للبرلمان العراقي .ومرت الزعامات السنية بمراحل مختلفة من الصعود والهبوط المرتبطة بحركة التغيير التي سادت خلال فترة ما بعد غزو العراق، لأسباب ترتبط بنقص الخبرة أو الاخطاء التي أسهم بها ارتفاع الخطاب السياسي المذهبي الذي استخدم في تعبئة الرأي العام الشيعي والساسة الشيعة ومن يدعمهم، مع غياب استراتيجية عمل واضحة لدى السنة، لتحقيق أهدافهم في الشراكة بإدارة الدولة وتلافي حالات الاقصاء والتهميش. وهنا يمكن طرح السؤال التالي:
هل يعاني العرب السنة في العراق من أزمة قيادة؟
نعم، يمكن القول إن العرب السنة في العراق يعانون من أزمة قيادة. هذه الأزمة تعود إلى عدة عوامل تاريخية وسياسية واجتماعية ومن أبرزها:
1- مارست الحكومات التي يقودها ساسة من الشيعة دوراً كبيراً في إضعاف القيادات السنية وتحييدها، وحتى إقصائها مثلما حصل مع نائب الرئيس العراقي الأسبق طارق الهاشمي ونائب رئيس الوزراء رافع العيساوي وساسة بارزون آخرون إبان حقبة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، بينما اكملت بعض الفصائل المسلحة مسيرة إحكام قبضتها على المدن السنية وصنع زعامات كرتونية ضعيفة موالية لها، يمكن التأثير عليها وضمان ولاءها عن طريق الأغراء بالمناصب واغداق الأموال على حساب قيادات ذات باع في العمل السياسي وأن كانت قليلة بسبب النظام السابق الذي حجّم الكثير من الشخصيات الفاعلة في المدن السنية. كما ان الرئيس السابق نفسه لم يسمح بظهور شخصيات لها ثقل في الوسط السني تنافسه في التأثير وقيادة المجتمع، لذا تعرض الكثير منهم للتصفية والسجن، الأمر الذي أضعف لدى الشخصيات المهيئة لتكون قيادية الرغبة بالقيادة. لذلك صار بإمكان القوى السياسية الشيعية، وبمساعدة التدخلات الإقليمية، من التحكم بالرمزية السياسية لمن يكون "زعيما" سنيّا، أو تهميش وإقصاء من يحظى بالدعم من الجماهير السنيّة. ولذلك باتت الزعامة السياسية السنيّة تحتاج دعامتين: الأولى دعم قوى النفوذ السياسي الشيعي، والثانية دعم القوى الإقليمية وتحديدا (إيران- قطر- تركيا).
2- فشل الإدارة الأميركية في صناعة قيادة سنية بعد الغزو في 2003، ومنح التمثيل السني لشخصيات “متقدمة بالسن” مثل نصير الجادرجي والراحل عدنان الباججي، ولاحقاً الراحل عدنان الدليمي، وكلها أسماء تجاوزتها الأحداث الجسيمة التي مرت على العراق. لاسيما وأن بريمر جاء إلى بغداد بتصوّر مفاده أن العراق يتكون من ثلاث مكونات بشرية رئيسة تشمل: الشيعة بنسبة 60%، والأكراد بنسبة 20%، والعرب السنة بنسبة 19%، وفقا لما أورده في مذكراته "عامٌ قضيته في العراق"، فقد اعتبر أنه إذا كسب الشيعة والأكراد إلى صفه فسيضمن النجاح، لذلك لم يكن همه البحث عن قيادات سنية لديها القدرة على المشاركة وضمان مصلحة العرب السنة وسط فوضى التسابق على كسب ود المحتل من اجل الغنائم والمناصب.
3- لم يؤمِن السنة كثيراً، وعلى امتداد تاريخهم في العراق، في بلورة مرجعية دينية أو إلى سياسية ولعل السبب في ذلك هو أن السنة بشكل عام ليس لديهم اهتمام أصلا بموضوع المرجعية الدينية، على اعتبار أن النصوص الدينية المنزلة، والسنة النبوية كافية لفهم تعاليم الدين، كما نعتقد أن هنالك سببا آخر ألا وهو أن الأقلية هي من يبحث عن الرأس الديني أو الطائفي، بينما الاكثرية لا تولي هذا الجانب اهتماما كبيرا. الأقليات الدينية والإثنية والطائفية دائما لديها شعور بأنها مستهدفة، لذلك تبحث عمن يجمع قواها ويؤطر جهدها وينسق تحركاتها كي تبقى متماسكة.
أما بعد عام 2003 فقد اختلف الوضع في العراق تماما، سواء بالنسبة لأهل السنة أو الشيعة. وبرز العامل الطائفي بصورة حاسمة في الحياة السياسية وحتى الاجتماعية. أنت لديك مرجعية دينية أذن أنت موجود. صحيح أن الزعامات القبلية برزت في أوساط الطائفة السنية أكثر من أي وقت مضى، وحاولت الجمع بين العمل السياسي والزعامة القبلية، لكن العمل السياسي في العراق بعد هذه الفترة بات مطلوبا أن يكون بمباركة دينية، كي يكتسب شرعية القبول من الطرف الآخر، لأن الوضع السائد بات يشرعن وجود مجتمعات ومكونات، وليس مجتمعاً واحداً.
إذن بما أن الطرف الآخر لديه مرجعية دينية، لابد للطرف الاول أن تكون له مرجعية دينية أيضا. وهذا التوجه لم يكن محصورا في أوساط العوام من السنة، بل بات مطلبا أمريكيا أيضا. لذلك عملت الإدارة الأمريكية ومن كان يمثلها في العراق على تشكيل هذه المرجعية. لقد قاموا بالتنسيق أولا مع الزعامات القبلية لترشيح من يرونه مناسبا، ولأن القوم اختلفوا في هذا الأمر وكل يريده حصريا من قبيلته، اتجهوا نحو فكرة أن الحزب الإسلامي العراقي هو المرجعية السنية، وقد ساعدهم في هذه المسألة أن الاخير هو أحد أقطاب العملية السياسية، ثم قام الحزب بعملية واسعة في أوساط السنة لتأكيد دوره المرجعي الديني، حيث سيطر بشكل كبير على المساجد، وقام بتعيين الائمة والخطباء حصريا من أعضائه، وحاول إقصاء كل من يعارضه من رجال الدين الآخرين. كما نجح الامريكان بتدجين الوقف السني وحاولوا إدراجه كمرجعية دينية، فتجرأ هذا الأخير على التجاوز ومحاربة رجال دين مرموقين وهيئات دينية نزيهة ومعتبرة. وكان الهدف الامريكي من كل هذه التحركات هو تعزيز الطائفية، وإسباغ الشرعية الدينية على الزعامات السياسية التي وضعوها في قمة هرم السلطة السياسية، بغية الاستمرار في خطف العراق وشعبه وتكريسهما في خدمة مصالحهم.
ومع استمرار الفشل الذريع في تشكيل مرجعية دينية للسنة، تكاثرت الهيئات والشخصيات السنية التي تدعي المرجعية الدينية، مثل المجمع الفقهي العراقي، ودار الإفتاء لأهل السنة والجماعة، وجماعة علماء العراق، ودار إفتاء الديار العراقية. وقد اختار البعض من هؤلاء الارتماء التام في أحضان السلطة. بعضهم اختار أن يكون تابعا للحكومة ولم يدخرا جهدا في التهليل للعملية السياسية، ومباركة كل خطوات تقوم بها الحكومة. وبعضهم الآخر اختار أن يكون تابعا للزعماء السنة في العملية السياسية، لكن الجميع اشتركوا في قاسم واحد هو التخلي العملي عن نصرة المظلومين، والاكتفاء بالبيانات الباهتة والإدانات الجوفاء لما يحصل من ظلم واضطهاد. وفي جانب المرجعية السياسية فد وجد العرب السنة أنهم في وضع حرج بعد سقوط نظام صدام حسين، والذي كان الكثير من قياداته البارزة من السنة، لكن انتمائهم البعثي جعلهم في دائرة التصفية أو التضييق والطرد من الوظائف.
-4 على مدى السنوات التي أعقبت سقوط النظام العراقي السابق، أشعل التنافس الحادّ على المناصب السياسية وما خلفها من مكاسب مادّية صراعات حادّة بين عدد من السياسيين السنّة على زعامة المكوّن، الأمر الذي صبّ في مصلحة المعسكر الشيعي بأحزابه وميليشياته وكرّس هيمنته على مقاليد السلطة. بعد عام 2003، ظهر العديد من القادة السياسيين السنة الذين تنافسوا فيما بينهم على النفوذ والسلطة التنافس الذي وصل حد التسقيط، والإلغاء بين قيادات البيت السياسي السنّي. مما أدى إلى تفتيت المجتمع السني سياسياً وعدم توحيد رؤيتهم أو مطالبهم بشكل فعال كما وأدى إلى إخفاق زعامات السنة، بعد دخولهم رسميا إلى العملية السياسية في 2006، في تحقيق أي مطلب أو وعود أطلقوها في برامجهم الانتخابية.
-5خلال السنوات التي تلت 2003، شعر العديد من العرب السنة بالتهميش والإقصاء عن مواقع القرار الفعلية والمؤثرة في الدولة من قبل الحكومات المتعاقبة التي سيطرت عليها أغلبية شيعية أو تحالفات متعددة الأطياف، مما عزز شعورهم بعدم وجود قيادة قوية تمثلهم، وترى غالبيتهم أنّ إسناد عدد من المناصب لشخصيات من طائفتهم في نطاق نظام المحاصصة المعمول به في العملية السياسية الجارية في البلد، يظل غير مؤثر في واقعهم، على اعتبار أن الكثير من تلك الشخصيات كانت دائما موضع اتهام بالفساد وعدم الكفاءة، وفي أدنى الحالات بالعمل لمصلحتها الخاصة ولمصلحة تياراتها وأحزابها.
-6شهدت المناطق السنية صراعات داخلية بين مختلف الجماعات المسلحة، كما تأثرت هذه المناطق بالتدخلات الإقليمية والدولية، مما أضاف تعقيداً إضافياً على مستوى القيادة.
-7المؤسسات الدينية والسياسية السنية لم تستطع تكوين جبهة موحدة أو قيادة قوية تمثل تطلعاتهم بشكل فعال، مما أدى إلى تزايد الفجوة بين القادة والمجتمع العربي السني الذي مازالت شرائح منه متمسكة بمواصفات ترسخت في ذاكرتها عن الزعيم القوي شبيه بما كان عليه صدام حسين وسطوته على الآخرين، وهو أمر لن يكون يسيراً عليهم التخلي عنه إلا بعد زمن طويل.
هذه العوامل وغيرها أدت إلى حالة من الانقسام وعدم الاستقرار في صفوف العرب السنة، وبالتالي إلى أزمة قيادة حقيقية.
أن حل مشكلة عدم وجود قيادة مؤثرة للعرب السنة في العراق يتطلب معالجة جذرية وشاملة تأخذ في الاعتبار العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أدت إلى هذه الأزمة. وفيما يلي بعض الخطوات الممكنة لتحقيق ذلك:
يجب على القوى السنية السياسية أن تتجاوز الخلافات الداخلية وتعمل على توحيد صفوفها. يمكن تحقيق ذلك من خلال تشكيل تحالفات سياسية قوية تعبر عن مصالح السنة بشكل جماعي وتضع خطة استراتيجية مشتركة.
بناء جسور الثقة مع الحكومة المركزية أمر بالغ الأهمية. يمكن للقادة السنة العمل على تعزيز الحوار مع الحكومة من أجل تحقيق توازن في توزيع السلطة وضمان تمثيل عادل للمصالح السنية في المؤسسات الحكومية.
تشجيع ودعم القادة المحليين الذين يحظون بثقة المجتمع في المناطق السنية يمكن أن يسهم في بناء قيادة قوية ومؤثرة. هذه القيادات يمكن أن تلعب دورًا حيويًا في توحيد الصفوف وإعادة بناء الثقة بين المجتمع السني والدولة.
تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في المناطق السنية يمكن أن يقلل من حالة الإحباط واليأس ويعزز الثقة في القيادة المحلية والوطنية. يجب أن تتضمن السياسات الحكومية برامج تنموية تعيد تأهيل المناطق التي تأثرت بالنزاعات وتوفر فرص عمل للشباب.
توعية المجتمع السني بأهمية المشاركة السياسية وتعزيز الثقافة الديمقراطية يمكن أن يسهم في خلق جيل جديد من القادة القادرين على تمثيل مصالح المجتمع بشكل فعال.
العمل على بناء علاقات خارجية قوية مع الدول التي يمكن أن تدعم القضايا السنية في العراق بشكل بناء. هذا يتطلب ديبلوماسية نشطة واستراتيجية لتأمين الدعم الدولي لمطالب السنة المشروعة.
تشجيع عمليات المصالحة بين المكونات المختلفة في العراق، بما في ذلك السنة، يمكن أن يساعد في تقليل الانقسامات الطائفية وتعزيز الوحدة الوطنية.
تطبيق هذه الخطوات يتطلب رؤية طويلة المدى والتزامًا حقيقيًا من جميع الأطراف المعنية، سواء كانت سياسية، اجتماعية، أو دولية، لتحقيق قيادة مؤثرة ومتماسكة للعرب السنة في العراق.