أنظروا إلى فاروق الأمة ما أحكمه وأعدله
فقد ذكر عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه فقال : خرجت ذات ليلة مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه نتفقد أحول الرعية في ليلة شديدة البرد , فتراءت لنا من بعيد نارٌ قد بدا نورها , فسرنا لنستطلع الأمر فرأينا امرأة تضع على النار قدراً وحولها صبية يبكون من شدة الجوع ! يقول أحدهم : ( أمي أكاد أموت جوعاً ! ) ويقول الثاني : ( أمي ارحمي مني الضلوعا ! ) وبقول الثالث : ( أمي ألآ أحظى بأكلة قبل ما أمضي صريعاً ! ) فقال لها عمر ما شأنك يا أمة الله ؟ وهي لا تدري أنه عمر ! فقالت : يا عبد الله : إن الأطفال جياع ولست أملك ما أطعنهم , فوضعت في القدر ماءً , وفي الماء حصى ! وأوقدت عليه أ ُلهي به الصبية حتى يناموا ! فقال لها عمر : ومم تشكين يا أمة الله ؟ قالت : الله الله في عمر ! ( أي أشكو عمر إلى الله ) فقال لها أمير المؤمنين : وما ذنب عمر يا أمة الله ؟ فقالت له : أيلي أمرنا ويغفل عنا ، ثم قال عبد الرحمن : فخرج عمر من عندها وجاء إلى خازن بيت مال المسلمين وأمره أن يحضر له دقيقا وسمنا وعسلا ، ثم قال له : احمل عليَّ ، فقال : عنك أم عليك يا أمير المؤمنين ؟! قال : بل احمل عليَّ ، قال : عنك أم عليك يا أمير المؤمنين ؟! قال : بل احمل عليَّ ، ثكلتك أأنت تحمل عني ذنوبي يوم القيامة ؟ ثم أتى المرأة وقد حمل مؤونتها على ظهره ، ثم طبخ لها بيديه الكريمتين . فأقسمت له قائلة : والذي بعث محمداً بالحق إنك لأحق بالخلافة من عمر ! فقال لها : يا أمة الله إذا كان الغد فتعالي إلى المسجد أكلم عمر في شأنك ، ثم خرج من عندها ومعه بن عوف وجلسا خلف صخرة يرقبان المرأة وهي تطعم صغارها ، وعبد الرحمن يقول لعمر : هيا بنا يا أمير المؤمنين فالبرد قد قطع أوصالنا ، فقال رضوان الله عليه : لا والله لن أبرح مكاني هذا حتى أرى الصبية وهم يضحكون كما رأيتهم يبكون .
( فالله الله يا عبد الله , الله الله يا عمر حتى دموع ُالأطفال يحاسب نفسه عليها عمر ) قال عبد الرحمن : ثم ذهبنا إلى المسجد لنصلي الفجر جماعة فصلى بنا عمر ووالله ما استطعنا أن نتبين منه شيئا من القرآن لشدة بكائه ، وفي الصباح قدمت المرأة المسجد وعمر جالس بين أصحابه فلما رأته من بعيد طاب خاطرها ، حتى إذا اقتربت وسمعت مَن حوله ينادونه بأمير المؤمنين أسقط في يدها وارتعدت فرائصها ، كيف لا وقد قالت له : إنك أحق بالخلافة من عمر ، فعلم عمر من وجهها وقام إليها مسرعا وقال لها : يا أمة الله بكم تبيعيني مظلمتك التي ظلمتك إياها ؟ فقالت : عفوا يا أمير المؤمنين ، قال ، اتبعِيها بكذا وكذا ! فقالت قبلت يا أمير المؤمنين ، ثم أمر بدواة وقلم وكتب : بسم الله الرحمن الرحيم : لقد اشترى عمر من المرأة مظلمتها بكذا وكذا ، شهد على ذلك عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما ، ثم قال : لمن حوله إذا مت فضعوها معي بين جسدي وكفني حتى ألقى الله بها .