1
ما عدت في المنفى أحس بغربة
أو وحشة ..
أو أشتكي هذا الرحيل القاسيا
قد أصبح المنفى صديقي الغاليا .
يأتي إلى المقهى معي .
يقرا جرائده معي .
ويعد وجبات الطعام معي .
ويقيس بدلاتي .. وقمصاني ..
ويلبس نصف أحذيتي معي ..
ويحب آلاف النساء معي ..
ويمل من كل النساء معي ..
ونام ملء جفونه
وأنا أظل مع القصيدة صاحيا .
2
ما عدت في مدن الشمال ممزقا
متسكعا ..
متشردا ..
متخاويا ..
ما عدت في باريس أو في لندن
أمشي على ثلج الشوارع حافيا ..
ما عدت أركض في الحدائق عاريا ..
قد أصبح المنفى قميصا ثانيا .
3
للحب في المنفى مذاق آخر .
لضياعنا الليلي في ( سوهو ) مذاق آخر .
لشطائر ( البيتزا ) مذاق آخر .
للبيرة الشقراء ، طعم آخر .
للقهوة السوداء ، طعم آخر .
للبرق والأمطار في عينيك .. عمق آخر .
للقرط في أذنيك ، جرس آخر .
حتى جنون الحب حين نعشيه
في لندن .
يبدو جنونا راقيا ..
4
هل ممكن ؟
أن يصبح المنفى كأية زوجة
نختارها يوما ، ولا نختارها .
وتصير رائحة المراكب عادة
وتصير أهداب النساء صواريا..!؟
5
هل ممكن ؟
أن يصبح المنفى أبي .. ومعلمي ..
وثقافتي .. وتراثيا..!؟
يصغي إلى ( يا جارة الوادي معي ).
ولأم كلثوم معي .
ولصوت فيروز معي .
فأصير أزهارا .. و أشجارا ..
ونهرا جاريا ..
6
شكرا لمنفاي الجميل .. فإنه
أهدى إلي حضارة .. وخرائطا ... وموانئا ..
وقصائدا .. وقوافيا ..
7
لم يكسر المنفى عظام أصابعي
أبدا .. ولم يخفض جبيني العاليا .
فلقد زرعت على الكواكب حنطة
وغرست فوق الأطلسي دواليا ..
8
إن المسافة لا تخيف مراكبي
فإذا ابتعدت ..
فكي أكون الرائيا ..
ما دمت أكتب ليس عندي مشكل
فأنا أحدد وجهتي .. ومكانيا ..
أنا قادر أن أصنع الوطن الذي أختاره ..
بدقائق ..
وأشق فيه جداولا وسواقيا ..
9
لم تخترعني دولة .. أو سلطة
فأنا اخترعت قبيلتي .. وبلاديا ..
الشاعر نزار قباني