لم تكن المرأة دائماً المثير لقول الشعر عند العرب، ولكن كانت لها منزلة في الشعر وتاريخه وفي جميع عصور الشعر العربي من الجاهلي وحتى الحديث، ولو أمعنا النظر في حضور المرأة في القصيدة العربية لوجدناها تبرز مرة ويضعف هذا البروز في قصيدة أخرى .
ففي الشعر الجاهلي أو الأنموذج الجاهلي من القصيدة العربية كانت المرأة إحدى ركائز المقدمة الطللية أو النسيب ونحن نعلم سلفاً أن معظم تراثنا الشعري في عصور متتالية يبدأ بالمقدمة الطللية فكانت المرأة تخاطب بالمحبوبة الغائبة عند الشاعر الذي وقف على أطلال الضاعنين أو استوقف صاحبيه على سنة النسيب في القصيدة في العصر الجاهلي يقول طرفة بن العبد في معلقته :
لخولة أطلال ببرقة ثهمد * * * تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليدِ
وقوفاً بها صحبي عليّ مطيهم * * * يقولون لا تهلك أسيً وتجلدِ
ويقول لبيد بن ربيعة في معلقته :
عفت الديار محلها فمقامها * * * بمنى تأبد غولها فرجامها
فالشاعر بعد أن وقف على الأطلال الفانية والخاوية والتي تحوي الذكريات الجميلة مع المحبوبة تذكر أهل هذه الأطلال الذين رحلوا وغابوا عن الشاعر وبقيت أطلالهم .
إننا نجد المحبوبة في هذا الأنموذج الجاهلي من القصيدة العربية تُخاطب غائبة عن الشاعر حين ذكر الأطلال لكننا نجد ذلك تحول في نماذج من شعر الصعاليك في العصر الجاهلي فنجد المرأة في بعض نماذج الصعاليك تخاطب حاضرة ويزداد بروزها وهي تحاول أن تثني زوجها عن الذهاب في رحلة المغامرة والموت التي يعزم الذهاب فيها وكيف تظهر في القصيدة وهي مشفقة عليه من الرحلة ومخاطرها، والشاعر الصعلوك يتخذ من هذا (القلق الأنثوي) منطلق للحديث عن رجولته والإيمان بالموت فيجعل الشاعر ذلك كله منطلقاً لقصيدته فيتأكد لنا من خلو غالبية شعر الصعاليك من النسيب كون حالة الصعاليك وحياتهم لا تستدعي الغزل ربما المائع الذي يلحظ في نسيب بعض القصائد.
ولعل ما ينساق على الأنموذج الجاهلي ينساق على نماذج كثيرة من شعر صدر الإسلام يقول حميد بن ثور الهلالي :
سل الربع أنى يمّمت أم سالم * * * وهل عادة للربع أن يتكلما
وقولا لها ياحبذا أنت هل بدا * * * لها أو أرادت بعدنا أن تأيما
ويقول حسان بن ثابت الأنصاري في القصيدة التي أعلن بها توبته:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول * * * متيم إثرها لم يجزَ مكبولُ
وما سعاد عادة البين إذ رحلوا * * * إلا أغن غضيض الطرف مكحول
فكانت المرأة تذكر في المقدمة الطللية والنسيب لما تعارف عليه الشعراء من كون المرأة ركيزة من أهم ركائز النسيب في المقدمة الطللية فلم يكن ذكر المرأة في قصيدة حسان بن ثابت رضى الله عنه للغزل فليست القصيدة للغزل بل جاء ذكرها عرفاً من أعراف القصيدة في تلك الفترة ولعلنا نلمس تحولاً في هذا المقام عند سحيم عبد بني الحسحاس فبعد أن كان يقول :
وهن بنات القوم أن يشعروا بنا * * * يكن في بنات القوم إحدى الدهارس
فكم شققنا من رداءٍ منير * * * ومن برقع عن طفلة غير عانس
نجده في قصيدة أخرى يشير إلى تحول في نهج قصيدته حيث قال:
عميرة ودع إن تجهزت غاديا * * * كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
جنونا بها فيما اعتشرنا علاله * * * علاقة حب متستراً وباديا
ليالي تصطاد القلوب بفاحم * * * تراه أثيثاً ناعم النبت عافيا
وهذا نلحظه في قصيدة أخرى لحسان بن ثابت رضي الله عنه حين قال :
ما هاج حسان رسوم المقام * * * ومظعن الحي ومبنى الخيام
ولعلنا نستشف من هذا البيت التوجه إلى محاولة التحول عن النهج ومع هذا كله لا نجد الشاعر قادراً على الخروج عن ذكر المرأة في القصيدة ونستشف من هذا البيت أن ذكر الأطلال في النسيب هي التي تقود الشاعر لذكر المحبوبة التي يوظف ذكرها غائبة في العديد من النماذج الشعرية والركائز الأخرى لتكوين البنية الثلاثية للقصيدة العربية.
وفي مرحلة من الشعر الأموي نجد المرأة تأتي بعد ذكر تفصيل للديار والأطلال يقول ذو الرمة :
ديار مية إذ ميّ تساعفنا * * * ولا يرى مثلها عرب ولا عجم
براقة الجيد واللبات واضحة * * * كأنها ضبية أفضى بها لبب وهذا كثير عزة يقول :
خليليّ هذا ربع عزة فاعقلا * * * قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت
ومسا تراباً كان قد مس جلدة * * * وبيتا وظلا حيث باتت وظلت
وما كنت قبل عزة أدري ما البكاء * * * ولا موجعات الدهر حتى تولت
وفي بعض المدائح التي يراد بها التكسب عند الولاة نجد المرأة أكثر حضوراً فمحاورة الزوج لها حاضرة في القصيدة وتصوير الشاعر حثها له على الخروج في رحلة الممدوح ومعاتبتها له على القعود عن رحلة التكسب التي في نماذج كثيرة نجد الوصف للرحلة يكاد يكون جل القصيدة ليصنع من خلاله أن له حقاً عند الممدوح بعد أن قطع هذه الرحلة وكابد الأخطار وعانى مشقة السفر ففي هذا المقام نجد المرأة حجة قوية للتكسب في عند الممدوح بل جعل المرأة وسيلة لاستعطاف الممدوح مما أفقد المرأة المكانة التي برزت بها في عصور مختلفة ولعلنا نلحظ أن جريراً أكثر استغلالاً للحوار مع الزوجة للدخول للمدح.
وفي الجانب المناقض للنموذج الأموي ما نجده على سبيل المثال في المدحة النواسية التي مطلعها:
أجارة بيتنا أبوك غيور * * * وميسور ما يرجى لديك عسير
فمع ازدواجية النغمة في النسيب ثم الاستطراد في وصف العقاب ليكون تخلصاً لينتقل الشاعر إلى حوار مع الزوجة التي يأتي ذكرها فقط للتخلص إلى الغرض الأصلي من القصيدة يقول أبو نواس :
تقول التي عن بيتها خف مركبي * * * عزيز علينا أن نراك تسير
أما دون مصر للغنى متطلب ؟ * * * بلى إن أسباب الغنى لكثير
ونلحظ تغييب أبو نواس للمرأة في الخمرية التي مطلعها :
صفة الطلول بلاغة القدم * * * فاجعل صفاتك لابنة الكرم
فكان غياب المرأة في القصيدة العربية في العصر العباسي ملحوظاً فلم يعد الحضور في بعض النماذج كحضورها في النموذج الجاهلي فهذا المتنبي يوظف المقدمة الغزلية توظيفاً مخالفاً للعرف فهذا الغزل لا وجود للمرأة فيه فالقصيد مدحة لسيف الدولة الحمداني مبدوءة بمقدمة غزلية سرعان ما تنكشف معالم الغرض من القصيدة في الشطر الثاني من البيت الثاني:
واحر قلبا ممن قلبه شبم * * * ومن بجسمي وحالي عنده سقم
مالي أكتم حبا قد برى جسدي * * * وتدعي حب سيف الدولة الأمم
فنجد على مر عصور الشعر العربي أن حضور المرأة في القصيدة العربية يأخذ بالغياب حتى أننا نجد زخماً هائلاً من الشعر العربي في العصر الحديث وقد غاب ذكر المرأة فيه بعد أن كانت المرأة ركيزة من ركائز القصيدة العربية بعيداً عن غرض القصيدة.