الوحدة العربية هل مازالت حلمنا الاكبر ؟ / ٢ شبكة ذي قـار صلاح المختار
الغرب ليسوا عباقرة ونحن لسنا أغبياء؛ هم فقط يدعمون الفاشل حتى ينجح
ونحن نحارب الناجح حتى يفشل
الشيخ علي طنطاوي وحدة مصرو وسوريا في عام 1958 كانت حدثا عد الاعظم في تاريخ العرب الحديث وقتها ، وبقي كذلك عقودا من الزمن حلما يداعب الوطنيين العرب في اعادة بناء الوحدة العربية واستشهد الالاف من اجله وهم سعداء بتضحياتهم الغالية . واليوم نقف امام مشهد مناقض : فبدلا من تحقيق الوحدة العربية نرى الاقطار العربية تتفكك وتتعرض للتقسيم وتنهض علاقات ما قبل الامة لتصبح منافسة لرابطة الامة والوطن في اقطار معينة بينما تتحول الى مصدر اقلاق وعدم استقرار في اقطار اخرى ، وتقع حروب دموية تحت تسمية الطائفية والعرقية والمناطقية والقبلية ... الخ وهي ابرز علاقات ما قبل الامة !
هذه حالة صعبة على النفس والاصعب من ذلك هو صعوبة تقبل التفسيرات المقدمة لهذه الظاهرة ، فلكي تكتمل عملية تفتيت الاقطار العربية وانهاء الهوية العربية نجد كتابا عربا بستعيرون نفس تعابير ومفاهيم الصهيونية والغرب الاستعماري ف ( يبشرون بنهاية الامة العربية ) وبدا ( عصر الامارات ) التي لا تربطها رابطة وطنية ولا قومية وانما تتحكم فيها روابط ما قبل الامة والوطنية . الادبيات الصهيونية والغربية كانت ومازالت تعمل على التشكيك بوجود امة عربية او انها تدعي ( انها امة ملفقة ومصطنعة ) من انتاج الاتفاقيات الدولية ، او تعترف بوجود الامة لكنها تدعو لتقسيمها وتفتيتها ( وبناء كيانات ما قبل الامة على انقاضها ) وهذا ما قالته الكاتبة الصهيونية الامريكية فلورا لويس في الثمانينيات من القرن الماضي !
وهذا التبشير غير الناتج عن اليأس او قصر النظر لايعد بريئا عندما يقترن بحصر الاسباب التي ادت الى فشل تجربة الوحدة العربية الاولى بأخطاء التيار القومي العربي بشكل خاص والعرب بشكل عام مع تقزيم كامل لدور القوى الخارجية او انكاره كليا ، هذه محاولة لبث اليأس من الوحدة عبر رسم صورة تشائمية لمستقبل العرب من جهة وتبرئة الطرف الرئيس الذي كان وراء تهديمها فعليا من جهة ثانية ، وهي الاستنساخ الحرفي لنظرية صهيونية غربية اخرى تدعي كذبا ان الشعب العربي الفلسطيني هو من فرط بوطنه وتركه للصهاينة . بل يمكن الجزم بان من يتهم العرب بانهم وراء افشال الوحدة انظمة وحكاما ومنع قيام وحدة اخرى مع اهمال الدور الخارجي في منع الوحدة العربية يتماهى كليا مع المخطط التقسيمي المعادي من خلال التضخيم المتطرف لدور العرب والتقزيم الاكثر تطرفا للدور الصهيواستعماري .
كيف ذلك ؟ نعم هناك اسباب كثيرة وراء الفشل منها اسباب ثانوية وهي التكوينات الداخلية العربية واخطاء من بنوا الوحدة ، واسباب رئيسة وهي دور القوى الدولية والاقليمية مثل بريطانيا وامريكا وفرنسا واسرائيل الغربية وانظمة عربية . لنتناول التفاصيل لاثبات تلك الحقيقة :
الاسباب الداخلية : 1-التكوينات الاجتماعية ودرجة التطور : احد الاسباب المهمة لفشل الوحدة هو نقص التجربة نتيجة حداثتها ووجود وعي متدن بكيفية حل المشاكل المعقدة وغلبة العواطف ونزعة الاستبداد ، ولكن هذا السبب لو كان السبب الرئيس لما استمرت حالة الانفصال ولتحققت الوحدة بعد اكتساب تجارب مرة مثلما حصل في اوربا عندما حققت القوميات الاوربية وحدتها بعد صراعات دموية بين الاقطاعيات استمرت قرونا وهذا ما حصل لفرنسا ولالمانيا مثلا فالبشر يتعلمون من اخطاءهم عندما تكون الصراعات داخلية ويكون التأثير الخارجي اما معدوما او ضعيفا . تعلم هؤلاء من تجاربهم واخطاءهم وتجنبوها وبنوا الوحدة القومية لعدم وجود قوى استعمارية تسيطر عليهم وتحدد خطوات انظمتهم وتضع اتجاهات الاعلام والاقتصاد والسياسة لهم وبالاخص تتبنى خططا تمنع وحدتهم القومية بكافة الطرق وتعد ذلك المهمة الاساسية للقوة الخارجية المسيطرة . فلم اذن فشل العرب في التعلم من التجارب الغنية وتجنب الاخطاء التي تتكرر بطريقة تبعث على الدهشة وكأنها تحدث للمرة الاولى ؟
هنا ندخل صلب الموضوع فمن يبحث في احداث العقود التسعة الماضية بطريقة موضوعية بعيدة عن الهدف المسبق سيجد ان الاسباب الخارجية وليس الداخلية كانت السبب الرئيس في عدم تحقق الوحدة العربية مرة ثانية بل ان التدخلات الخارجية هي التي غذت العقد النفسية وثقافات ما قبل الامة ودعمتها ووضعت خططا بعيدة المدى لتعزيز دورها بحيث يصبح مهيمنا ويعود قويا وحاسما كما كان قبل نشوء الامة على الاقل في مناطق معينة .
كما ان تحطيم التعليم وتعمد جعله سطحيا والقضاء على تجارب التعليم الناجحة مثل العراق ومصر قد ساعد على احياء ثقافات ما قبل الامة نتيجة هيمنة الجهل على تفكير اجزاء واسعة من الناس مما يجعل خياراتهم غير واعية وتتبنى الحلول المباشرة والسريعة . وعندما يقترن تدهور التعليم والثقافة بتعمق وتوسع الفقر والتمييز الطبقي والاضطهاد القاسي فان الانسان يصبح مجبرا على العودة لحوافز ماقبل التحضر والمدنية خصوصا الانانية والعنف والفوضى الاجتماعية والفردية والانتهازية والتطرف والاحتماء بعلاقات ما قبل الامة مثل القبلية والطائفية نتيجة ضياع القانون والمساواة ..الخ .
والان نعلم استنادا لكل ما كشف النقاب عنه من خطط في العقود السابقة بان تحطيم التعليم ونشر الفقر كانا عملا مخططا من قبل القوى الغربية التي وضعت يدها على نفط وغاز العرب وبقية ثرواتهم لان شعبا جاهلا وجائعا يصبح هدفه الاول العيش ليومه وترك غده للصدف وهذا ما تحاجه القوى الاستعمارية بالضبط لزيادة تدخلها وفرض انماط من النظم مناسبة لمصالحها .
وانشاء احزاب وتربية كتل اجتماعية عربية وفقا لثقافات غريبة ومعادية عند دراستهم في الغرب او بتأثير المعاهد التعليمية واللغوية التي اقيمت داخل الاقطار العربية فاستقطبت نخبا معينة وغذتها بافكار ليبرالية في وطن ما زالت علاقات ما قبل الامة فيه حية وان كانت ثانوية التاثير وقتها فصارت الليبرالية دواء قاتلا بدلا ان تكون منظما للمجتمع ومتنفسا للظلم والاستغلال الطبقيين كما هي في الغرب .
لنتذكر دائما بان الليبرالية نتاج مجتمع رأسمالي متقدم وليست نتاج مجتمع اقطاعي او عبودي تتجذر فيه نزعة الاستبداد وتتوارثها الاجيال في العائلة اولا ، ثم ركبت عليه بطريقة مصطنعة رأسمالية فتية لم تكتمل بنيانها الفوقية ولا بنيانها التحتية بعد اي لم تفرض نفسها ثقافيا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا ، لذلك فان الليبرالية لا يمكن تطبيقها في مجتمع نصف اقطاعي نصف رأسمالي هجين مثل هذا تحكمه او تؤثر فيه علاقات ما قبل الامة والنظم المتناقضة والمتعايشة في نفس الوقت . ان وجود نظامين اجتماعيين متناقضين وتزامن عيشهما في مجتمع ما يؤدي حتما الى تنازع وتناقض تاثيراتهما على الانسان والمجتمع ولذلك تفرضان سلوكا متناقضا ومترددا وسطحيا . وهذا ما رأيناه في العراق ومصر في العهد الملكي حيث فرضت ليبرالية بدت مؤقتا صالحة لكنها كانت تخفي تحتها كافة انماط السلوك الاقطاعي والاستبدادي والرجعي لهشاشتها وغربتها عن التربة الوطنية والقومية رغم تبرقعها بليبرالية زائفة وهشة .
وفي الخليج العربي تبدو عملية تطبيق الليبرالية اكثر غرابة وسوءا فعندما حصلت قفزة الثروة المفاجئة كشفت عن سلوك مغمس بروح العنجيهة والتعالي لدى بعض من يملك المال ويشغّل الاخرين لديه لانه اصلا كان – وبعضهم مازال - يملك الرق ويتعامل معهم بطريقة لا انسانية ومارس ذلك في تعامله مع ملايين العاملين العرب والاجانب في دول الخليج العربي ، لكنه ولانه لم يفارق ثقافة الفقر والامية والتخلف التي عاشها الاف السنين وطبعت سلوكه الاجتماعي خصوصا شعوره بتفوق افراد مناطق الحضارة مثل العراق ومصر والشام عليه تكونت احدى اخطر مفارقات المجتمع الخليجي وهي وجود كتل اجتماعية بالغة الثراء لكنها تشعر بالفقر ، واحيانا بالنقص ، الحضاري والاجتماعي والثقافي عند التعامل مع حواضر العراق ومصر والشام .
هل لتلك الحالة رد فعل سلبي ؟ نعم رد الفعل لهذه السايكولوجيا في التعامل مع مواطني هذه الاقطار يتميز بتعال وغرور مصطنعين ومتطرفين عندما يذهبون للعمل لدى هذا البعض من الخليجيين ! فكيف تتعايش الليبرالية مع انماط السلوك العبودي ؟ وخطورة هذه الازدواجية تظهر باشد اشكالها تدميرا للطرفين معا فالازدواجية في السلوك كانت واضحة ومازالت حتى الان موجودة في الكويت مثلا ومن لا يحسب حسابا لدورها في الازمات السياسية الكبرى في الوطن العربي يقع في خطا اهمال عامل مهم في الدوافع السياسية المعاصرة ، ويكفي ان نشير الى تسخير البتردولار في خطة الغرب لافشال تجربة الوحدة الاولى .
ويجب ان لا ننسى ابدا - لاغراض التعلم وليس للانتقام - كيف تنمّرت عناصر كويتية واخذت تستفز العراق اعتبارا من عام 1988 بعد ان تيقنت ان امريكا تحميها وتريد منها ان تقوم بالاستفزاز وترتب على ذلك الاستفزاز اكبر ازمات الامة العربية قاطبة حتى وقوعها وما ترتب عليها من تداعيات اخطر منها ، فذلك الكويتي الغارق في شعوره بالضعف امام العراقي العملاق المتحضر وبتاريخه وانجازاته والذي كان يعمل على ارضاء العراقي وجد فجأة فرصة للانتقام التاريخي من حالة نفسية كان يرفضها داخليا لكنه لم يكن يستطيع الاعراب عنها خوفا من نتائج ذلك فكان التشجيع الامريكي على استفزاز العراقي مناسبة للتعبير عن كبت مشاعر ضعف قديمة . فكيف يمكن للانسان ان يكون ليبراليا وعقلانيا وهو اسير ثقافات الاقطاع والرق والرأسمالية الفتية في ان واحد وفاقد للقرار السيادي المستقل ؟ كيف يمكن الجمع بين براغماتية الليبرالية وازدواجية سلوك الاقطاعي مع عبيده ومع من هم اقوى منه ؟
هذه حالة شذوذ تطوري لم يمر بها الغرب لانه انتقل من الاقطاع الى الرأسمالية فتمت عملية ازالة تأثيرات البنى الفوقية للاقطاع وبقيت البنية الفوقية للرأسمالية هي التي تنتج السلوك وانماط النشاط والعلاقات الاجتماعية خصوصا الليبرالية. واستنادا لذلك فان فرض الليبرالية من قبل الغرب علينا ، رغم الفروق الجوهرية بين المجتمعات العربية والغربية ، كان يستبطن هدفا واضحا وهو تعمد زيادة اضطراب المجتمع العربي وتناقضاته وعدم السماح بوصوله للاستقرار وابقاء نبع دائم يفيض بالفوضى الاجتماعية والفكرية والاخلاقية مما يجعل الوصول لحلول واقعية لازمات الامة العربية العامة مستحيلا وفي افضل الاحوال ناقصا ومبتورا وهو اسوء من الوضع السلبي .
هنا نصل الى احد اهم اسباب فشل تجربة وحدة عام 1958 فالنظام الاجتماعي الاقتصادي الهجين والذي كان ينتج ثقافات وسلوكيات متناقضة بشدة انعكست على سلوك الافراد والجماعات التي تولى بعضها قيادة العمل السياسي فكان طبيعيا ان تكون الممارسات مشوبة بنقص في تماسك الوعي من جهة وبوجود امكانية للسلوك المزدوج من ناحية ثانية . النظام المهجن عمدا انتج ثقافات هجينة وسلوكا هجينا والسلوك الهجين ومهما فعل صاحبه لا يوصل للحل الفعال حتى وان انتج حلا مؤقتا . هذه حقيقة عشناها خلال اكثر من نصف قرن مضى ورأينا الفرد ينتقد الاستبداد لكنه مستبد ويدعو للديمقراطية لنفسه لكنه يحرمها على غيره ، يرى أخطاء غيره لكنه لا يرى جرائمه ! العرب حكاما ومحكومين ضحايا هم هذه التناقضات المتزامنة .
ولكن من وراء تعايش وتفاعل انظمة مختلفة ينتمي كل منها الى مرحلة تاريخية انتهت وما تفرزه من اثار خطيرة سلبية ؟هل كانت حالة تطورية طبيعية ام انها فرضت على العرب ؟
يتبــــــــــــــــع .. almukhtar44@gmail.com
١١ / أذار / ٢٠١٥