كيف تأسس المتحف العراقي؟ ومن أسسه؟ وكيف تنقلت بنايته؟
كيف تأسس المتحف العراقي؟ ومن أسسه؟ وكيف تنقلت بنايته؟
بعد الحرب العالمية الأولى، بدأ علماء الآثار من أوروبا والولايات المتحدة بعدة تنقيبات في جميع أنحاء العراق، وجمعوا العديد من المجموعات والقطع الأثرية للحفاظ عليها في مَكان آمن حفاظاً لجهودهم، وقاموا بالحفريات والاستكشافات العديد من الرحالة البريطانيين وعلماء الآثار وكذلك الباحثة البريطانية المس غيرترود بيل حيث جُمعت جميع القطع الأثرية في مبنى السراي ببغداد في حيز صغير من المبنى في عام 1922م.
ولقد قَامت باحثة الآثار البريطانية المس غيروترود بيل بجولات ميدانية لزيارة عدد من المواقع الآثرية التي أصبحت بحاجة ماسة إلى الصيانة لترميم الأضرار لغرض المباشرة بصيانتها، ونتيجة لاهتمامها بالآثار العراقية دَفع الأمير فيصل الأول بعد تتويجه ملكاً على العِراق تعيينه مُدرية فخرية للآثار القديمة بصورة مؤقته، ولقد اَستقبلت المس بيل بعد توليها المسؤولية الفَخرية لدائرة الآثار القديمة عدداً من البعثات الأثرية التي كانت تتطلع إلى الحصول على امتياز تنقيب في عدد من المواقع الأثرية، ومن أشهر هذه البعثات البعثة المشتركة للمتحف البريطاني وجامعة بنسلفانيا الأمريكية برئاسة ليونارد وولي، حصلت على أمتياز التَنقيب في مدينة كيش، ونجحوا في العثور على قطع آثرية كثيرة، نال العراق نصف الكمية، من بينها خوذة ذهبية وقيثارة ودبوساً ذهبية وتمثال لأحد ملوك مملكة كيش السومرية يبلغ طوله ثلاثة أقدام، مقطوع الرأس، ولم يتمكن الأثاريون من قراءة الكتابات الموجودة على كتفه، بأستثناء تحديد أسم المَلك وقررت المس بيل إرساله إلى لندن لفك رموزه من علماء الآثار البريطانيين ومن ثم إعادته إلى العراق، وأستطاعت أيضًا شراء عدد من الآثار من الأهالي فكانت حصيلة ما جمعته كمية لا يستهان بها من الآثار التي اُكتشفت حديثاً، مما شجعها على إقامة معرض لعرض اللقى الآثرية امام الجمهور للتعريف بها، وقد أفتتح المعرض بتاريخ (11 آذار 1923)، وضعت فيه القطع الأثرية على مناضد وبالقرب من كل قطعة بطاقة تعريفية باللغتين العربية والإنجليزية، ونال المعرض آستحسان الحاضريين والزائريين، وكان في مقدمتهم الملك فيصل الأول والوزراء والشخصيات العامة. وبعد نَجاح المَعرض، أرادت أن تنشئ مَتحف عراقي للآثار، للحفاظ على جهودها من السرقة والضياع والإندثار، إلا أن عقبات عدة اعترضت سبل تنفيذه أول مره، منها عدم توفر مكان ملائم لإقامته، ولكنهم لجوءا إلى بناية القشلة، وأُختيرت إحدى الغرف الصغيرة في الطابق الأسفل من مبنى القشلة، عرفت هذه الغرفة لاحقاً باسم غرفة الاحجار البابلية.
تاريخ نقل المَتحف
وفي عام 1926 م، نَقلت الحكومة العراقية هذه الآثار والمجموعات التي تم العثور عليها من قبل المنقبين إلى المبنى الجديد وانشئ مبنى متحف بغداد للآثار وشغلت غيرترود بيل منصب مديرة المَتحف، ولقد توفيت غيرترود بيل في وَقت لاحق واستلم مهامها المدير الجديد ر.س كوك.
انتقال المتحف من السراي إلى شارع المأمونكان المتحف يشغل حيزاً صغيرًا. في مبنى القشلة أو السراي القديم في وسط بغداد. وبعد جَمع أعداد كبيرة من الآثار نتيجة لعمليات التنقيب التي اجريت في جميع أنحاء العراق آنذاك، أصبح الحاجة إلى نقل المَتحف مطلباً ملحاً ليسع الآثار الأخرى التي تَجمعت بمرور الوقت في صناديق خشبية لم يَتمكن من عرضها بسبب ضيق مساحة المَتحف، فكان لابد من توسيع المَتحف العراقي ليحفظ ما جمع من قطع أثرية، فُنقلت بنايته في عام 1926 إلى مبنى آخر واسع وجديد في شارع المأمون بالقرب من ضفاف نهر دجلة والمدرسة المستنصرية في بغداد.فعملت الحكومة العراقية على بيع مطبعة الحكومة وتسليم بنايتها إلى وزارة الأشغال والمواصلات، وإن اختيار بناية مطبعة الحكومة جاء لعدة أسباب، وهو سعة البناية مقارنة بمتحف القَشلة، وتألفها من طابقيين وحداثتها، إذ لم يمر على تشييدها سوى بضعة سنين، فضلاً عن ملاءمتها للعرض المَتحفي، وبعد أن بُيعت لوزارة الاشغال والمواصلات، تم إعطاء البناية إلى دائرة الآثار القديمة لتتخدها مَتحفاً ومقراً لها، وقَد أشرفت المَس بيل بنفسها على أعمال تأهيل بناية المَتحف الجديدة وصيانتها بما يلائم العرف المَتحفي، وأفتتح المَتحف في 14 حزيران، 1926 في تمام الساعة الثامنة صباحاً، وحضر حفل الافتتاح الملك فيصل الأول وعدد من شخصيات المجتمع البارزة والشخصيات البريطانية.المتحف العراقي في بنايته الجديدةفي عام 1957، ضاق مبنى المُتحف في شارع المأمون وأرادت الحكومة العراقية أن تخصص بناية جديدة تتصف بمواصفات متحفية عالمية تضم آثار العراق، ولهذا بني المبنى الجديد ونُقلت مجموعات القُطع الأثرية إليه، والمبنى مكون من طابقيين، تبلغ مساحته 45،000 متر مربع، ويقع بين حي الصالحية ومنطقة العلاوي، في منطقة الكرخ الواقعة على الجانب الغربي لنهر دجلة، وقد وضع تصاميم المبنى الجديد مهندس ألماني، وأشرف على بنائه مهندسون عراقيون، وأنجزته شركة لبنانية التي بدأت عام 1957 وانتهت منه عام 1963. وافتتح في 9 تشرين الثاني، 1966، وإنطلاقاً من هذه الخطوة تم تسمية المتحف بـالمتحف الوطني العراقي وكان في السابق يعرف باسم متحف بغداد للآثار.وتخلل عن المشروع مساحات خضراء ومساحات مكشوفة وزين الركن الجنوبي منه ببرج مربع الشكل بارتفاع يبلغ 17 متر ومساحته السطحية 130 متراً مربعاً وزينت بناية المتحف من الداخل بزخارف عباسية وآندلسية، فيما بلغ مجموع قاعات المَتحف آنذاك (13 قاعة) متباينة المساحة احتضنت (158) خزانة عرض حديثة.مكتبة المَتحف العراقيتأسست مكتبة المتحف العراقي عام 1933، حيث كانت في بدايتها قاعة من قاعات المديرية وصنعت لها خزانات قليلة وقد أنيطت إدارتها وأسند الاشراف عليها حينذاك بموظف يتعهدها ويهتم بها. وهي عبارة عن المجموعات التالية: مجموعة من هدية الآباء الكرمليين في بغداد، وهي هدية نفيسة عظيمة الشأن تتألف من المكتبة الحافلة التي جمعها العلامة اللغوي الأب انستاس ماري الكرملي المتوفى عام 1947، وتتألف هذه المكتبة من آلاف المجلدات المطبوعة والمخطوطة، وان ما تفضلوا بإهدائه يتألف من ستة آلاف مجلد مطبوع وألف وثلاثمائة وخمسة وثلاثين مجلدا مخطوطا. ومجموعة هدية الشريف حازم في عام 1950 وهذه الهدية عبارة عن شطر من مكتبته النفيسة وقد بلغ ما أهداه زهاء ألف مجلد من المطبوعات العربية تتناول موضوعات تأريخية وأدبية ودينية ولغوية.ومجموعة هدية المتحف البريطاني في عام 1946 حيث أهدى المتحف البريطاني إلى مكتبة المتحف العراقي زهاء أربعمائة مجلد من مطبوعاته ويدور معظمها حول الآثار والتأريخ وفهارس الكتب المطبوعة والمخطوطة.
ويذكر الدكتور صباح الناصري في مدونته الوثائقية (بين دجلة والفرات) في مقاله الموسوم (تـمـثـال جـرتـرود بـيـل في الـمـتـحـف الـعـراقي) :
تـبـنّـت الـمـس جـرتـرود بـيـل مـنـذ عـام 1923 مـشـروع تـأسـيـس مـتـحـف وطـني عـراقي لـحـفـظ الـمـجـمـوعـات الأثـريـة الّـتي تـراكـمـت عـامـاً بـعـد عـام في قـاعـات الـسّـراي الـقـديـمـة.
وفـتـح الـمـتـحـف، الّـذي سـمي بـالـمـتـحـف الـعـراقي، أبـوابـه لـلـزوّار في حـزيـران 1926. وكـانـت بـنـايـتـه قـلـيـلـة الـسّـعـة في الـبـدايـة.
وفي بـغـداد، تـوفـيـت (الـخـاتـون)، كـمـا كـان الـبـغـداديـون يـسـمـون الـمـس جـرتـرود بـيـل، في 12 تـمّـوز 1926، قـبـل يـومـيـن مـن بـلـوغـهـا الـثّـامـنـة والـخـمـسـيـن مـن عـمـرهـا. وكـانـت قـد أوصـت أن تـدفـن في بـغـداد، فـدفـنـت في مـقـبـرة الأرمـن في الـبـاب الـشّـرقي.
وقـد نـصـبـت في ذكـراهـا، في مـدخـل الـمـتـحـف الـعـراقي، لـوحـة مـن الـبـرونـز فـوقـهـا تـمـثـال نـصـفي لـهـا. وعـلى الـلـوحـة نـصّ بـالـلـغـة الإنـكـلـيـزيـة في نـصـفـهـا الأيـسـر، وتـرجـمـتـه إلى الـلـغـة الـعـربـيـة في الـنّـصـف الأيـمـن.
صـورة لـحـفـل إزاحـة الـسّـتـارة عـن الـلـوحـة والـتّـمـثـال. ولـم أجـد تـاريـخ إقـامـة هـذا الـحـفـل بـالـضّـبـط.نـرى في الـصّـورة الـمـلـك فـيـصـل الأوّل واقـفـاً أمـام الـلـوحـة الّـتي مـا زالـت تـغـطّـيـهـا الـسّـتـارة، يـرتـدي مـعـطـفـاً فـاتـح الـلـون، يـبـدو مـعـطـفـاً واقـيـاً مـن الـمـطـر، وعـلى رأسـه”سـدارة”. ويـبـدو مـن وجـوه الـحـاضـريـن، الـعـراقـيـيـن والأجـانـب، الـنّـاظـريـن إلـيـه أنّـه كـان يـلـقي كـلـمـة بـهـذه الـمـنـاسـبـة. ووقـف عـلى يـمـيـنـه الـمـنـدوب الـسّـامي الـبـريـطـاني.
والّـذي يـظـهـر في الـصّـورة يـمـكـن أن يـكـون الـسّـيـر هـنـري دوبـس Sir Henry Dobbs الّـذي شـغـل هـذا الـمـنـصـب في الـعـراق مـن 1923 إلى 1928، أو الـسّـيـر جـلـبـرت ف. كـلايـتـون Sir Gilbert Falkingham Clayton الّـذي شـغـلـه مـن 1928 إلى 1929، أي مـبـاشـرة قـبـل الـسّـيـر هـمـفـريـز.
ويـبـدو مـن الـمـعـاطـف الّـتي يـرتـديـهـا الـحـاضـرون أنّ الـحـفـل جـرى في طـقـس شـتـائي بـارد.
ونـرى الـمـنـدوب الـسّـامي مـرتـديـاً مـعـطـفـاً غـامـق الـلـون يـمـسـك قـبـعـتـه بـيـديـه الـلـتـيـن يـغـطـيـهـمـا قـفـازان. أمـا عـلى يـسـار الـمـلـك، فـقـد وقـف وزيـر الـمـعـارف عـبـد الـحـسـيـن الـجـلـبي مـرتـديـاً زيّـاً غـامـقـاً مـمـا يـلـبـسـه الأوربـيـون في الإحـتـفـالات الـرّسـمـيـة، بـسـتـرة طـويـلـة مـذيّـلـة (أي يـنـسـدل أسـفـلـهـا إلى مـنـتـصـف الـفـخـذيـن تـقـريـبـاً). ولـكـنّـه يـتـمـيّـز عـن الـمـدعـويـن الأجـانـب بـأنّ عـلى رأسـه”سـدارة”سـوداء بـدلاً مـن الـقـبـعـة.
ونـلاحـظ أنّ الأجـانـب، ومـن ضـمـنـهـم الـمـنـدوب الـسّـامي، خـلـعـوا قـبـعـاتـهـم مـن عـلى رؤوسـهـم احـتـرامـاً، كـمـا هي الـعـادة في مـثـل هـذه الـمـنـاسـبـات، بـيـنـمـا أبـقى الآخـرون”الـسّـدارات”الـمـدنـيـة والـعـسـكـريـة (وحـتّى الـطـربـوش الّـذي نـلـمـحـه بـيـن الـمـلـك والـوزيـر) عـلى رؤوسـهـم.
ولا شـكّ في أنّـه كـان مـن بـيـن الـحـاضـريـن أحـد عـالـمَي الآثـار الـبـريـطـانـيَـيـن : ريـشـارد س. كـوك الّـذي تـولى إدارة الـمـتـحـف مـن بـعـد وفـاة الـمـس بـيـل عـام 1926 إلى أن نُـحي عـنـهـا في 1929، أو سـيـدني سـمـيـث Sidney Smith الّـذي خـلـفـه في إدارة الـمـتـحـف مـن 1929 وإلى 1931. ولـم أسـتـطـع أن أتـعـرّف عـلى الـواحـد مـنـهـمـا أو الآخـر مـن بـيـن الـحـاضـريـن لأني لـم أجـد ولـو صـورة شـخـصـيـة واحـدة لأيّ مـنـهـمـا في الـمـراجـع الّـتي لـديّ عـن عـلـمـاء الآشـوريـات.
ونـلاحـظ في حـوش الـمـتـحـف، عـلى جـانـبي الـمـدخـل تـمـثـالَـيـن ضـخـمـيـن كـان قـد عـثـر عـلـيـهـمـا في مـعـبـد الإلـه نـبـو، في مـوقـع نـمـرود، جـنـوب الـمـوصـل. وقـد تـكـلّـفـت بـنـقـلـهـمـا إلى الـمـتـحـف شـركـة الـنّـفـط The Iraq Petruleum Company.
والـتّـمـثـال الـبـرونـزي بـالـحـجـم الـطّـبـيـعي، لا نـعـرف اسـم نـحّـاتـه مـعـرفـة أكـيـدة. ونـعـرف مـن الّـنّـصّ الـمـنـقـوش عـلى الـلـوحـة الـبـرونـزيـة أنّ أصـدقـاء الـمـس بـيـل هـم الّـذيـن أقـامـوه”بـإذن مـن الـمـلـك والـحـكـومـة”. ويـبـدو لـنـا مـنـطـقـيـاً أنّـهـم اخـتـاروا نـحّـاتـاً بـريـطـانـيـاً لـتـنـفّـيـذه.
ولـكـن يـذكـر الـبـعـض أنّ الـمـلـك فـيـصـل هـو الّـذي طـلـب نـحـتـه، وأنّـه كـلّـف بـهـذه الـمـهـمـة الـنّـحّـات الإيـطـالي بـيـتـرو كـانـونـيـكـاPietro CANONICA الّـذي نـفّـذ بـعـد ذلـك، في عـام 1933 تـمـثـالاً مـن الـصّـخـر لـلـمـلـك فـيـصـل بـالـمـلابـس الـعـربـيـة مـمـتـطـيـاً صـهـوة حـصـانـه، وتـمـثـالاً بـرونـزيـاً لـمـحـسـن الـسّــعـدون. وهـذا يـنـاقـض مـا جـاء في نـصّ الـلـوحـة الّـتي تـصـاحـب الـتّـمـثـال، كـمـا سـبـق أن رأيـنـا.
وعـلى الـلـوحـة، كـمـا سـبـق أن ذكـرنـا، نـصّ بـالـلـغـة الإنـكـلـيـزيـة في نـصـفـهـا الأيـسـر، وتـرجـمـتـه إلى الـلـغـة الـعـربـيـة في الـنّـصـف الأيـمـن.
ونـقـرأ تـرجـمـتـه (الـتّـقـريـبـيـة) إلى الـعـربـيـة عـلى الـيـمـيـن :
“كـرتـرود بـيـل الـتي لـذكـرهـا عـنـد الـعـرب كـل إجـلال وعـطـف أسـسـت هـذا الـمـتـحـف سـنـة 1923بـصـفـتـهـا الـمـديـرة الـفـخـريـة لـلـعـاديـات في الـعـراق وجـمـعـت الأشـيـاء الـثـمـيـنـة الـتي يـحـتـويـهـا بـإخـلاص وعـلـم دقـيـق واشـتـغـلـت بـهـا مـدى حـر الـصـيـف إلى يـوم وفـاتـهـا
في 12 تـمـوز سـنـة 1926الـمـلـك فـيـصـل وحـكـومـة الـعـراق قـد أمـرا لـهـا شـكـراً عـلى أعـمـالـهـا الـكـبـيـرة في هـذه الـبـلاد بـأن يـكـون الـجـنـاح الـرئـيـسي بـاسـمـهـا وبـإذن مـنـهـمـا قـد أقـام أصـدقـاؤهـا هـذه الـلـوحـة”.
المصدر/ ذاكرة عراقية.