حين تُغسل الملابس العتيقة بدماء شريفة هل من ضمير؟
منذ 3 ساعات
يوم دام جديد في العراق، بعد فترة أمن كاذب. تفجيران انتحاريان في سوق شعبي وسط بغداد، خلّف عشرات الضحايا والجرحى في الأسبوع الماضي. في هذا المكان فقراء يبيعون الملابس المستعمله، وفقراء يشترون.. جل البائعين والمشترين ناموا هنا فوق المصاطب التي يبيعون عليها أكثر من عام.
كانوا العام الماضي ثوارا في ثورة تشرين، يبحثون عن وطن وكرامة ومستقبل فيه شعاع أمل، كانوا يشعرون بعمق أنهم جزء من هذا الوطن، وأنهم يتشاركون مع الجميع شظف العيش وهدر الكرامة، لذلك ترفعوا عن معاناتهم الشخصية، وثاروا لأنهم كانوا واثقين من أن الحياة لا يمكن أن تطحنهم أكثر. كانت مشاركتهم بالثورة من أجل المجموع وشعاراتهم (نريد وطن) معبأة برسائل مفعمة بالأمل تربط الحاضر بالماضي، كي يجعلوا اليائسين يشعرون بأن الحياة ممكنة، والتغير ممكن عندما لا ينهار الانسان من طول الانتظار.
كانت روح الشباب وسريان الدم الحار يجعل الأمل متدفقا كثيفا في أجسادهم النحيلة، ويمنع الحزن من أن يربض على حواسهم، فيجعل الاستكانة هي حركتهم والعذاب هو زمنهم. كانت تفاصيل الجوع والعوز والفاقة والظلم والعذابات التي تعانيها عوائلهم تتراجع أمام مأساة المجموع لكنها لا تغيب. كان كل نهار يتمدد في ساحة الطيران والباب الشرقي في بغداد، يجعل الأمل ممكنا لديهم، والمستقبل يمكن صناعته بشكل آخر. بضع مئات الأمتار عن هذا السوق عالم آخر، تجارته الرائجة سرقة المال العام وخيانة الوطن، فساد وبذخ وترف وتغييب واختطاف وتعذيب وقتل وسط قهقهات الجلادين. زبائنه الدائمون منذ عام 2003 وحتى اليوم رجال معممون وآخرون ببدلات وربطات عنق، لكن قاسمهم المشترك أن ولاءاتهم تمتد على امتداد الكرة الأرضية إلا العراق. قصور منيفة وشوارع نظيفة، وخدم وحُجّاب وحراس وسيارات مصفحة وطائرات خاصة، وحسابات مالية في كل العالم، وفلل وجامعات مشهورة للأولاد والأحفاد، وعوائل ترتاد عروض الأزياء وصالونات التجميل، والتبضع من أشهر الماركات. والآن العنوا كل من قام بالتفجير بكل اللعنات، صفوهم بكل الصفات البذيئة، التي نعرفها ولا نعرفها، جرّموهم في كل المحافل وعلى كل الشاشات وصفحات الجرائد والمجلات ومواقع التواصل. لكن عليكم أن تعرفوا حقا من هو المجرم الحقيقي الموغل بالجرم؟ هل هو من نصب مسرح الجريمة وسحب كل الحراس، ووفر كل الإمكانيات لتنفيذ الرقصة؟ أم من جيء به ليرقص فوق المسرح وأبكى كل الجمهور حد الموت؟ هل هو من خلع أبواب وشبابيك بيتكم الكبير، وهدّم الجدران وأزال السقوف؟ أم من دخل عليكم فسرق أبناءكم وأحباءكم خلسة منكم؟
- اقتباس :
- سيطرة الأحزاب والميليشيات على مؤسسات الحكم ودوائر الدولة، هي التي توفر ممرا آمنا لكل من يريد التفجير والقتل
أيها العراقيون يجب أن تعلموا أن من رحلوا في التفجير، موجودون بأصواتهم وملامح وجوههم بينكم. إنهم اليوم يُذكّرون الجميع بأن النهايات التي وصلوا إليها تتربص بكل واحد منا، إن بقي هؤلاء يقيمون في المنطقة الخضراء من بغداد، لكن لا أحد يعلم متى وأين. ففي كل مرة يحصل فيها تفجير تصحو الحكومة من سباتها لتقول إنها اتخذت أجراءات عاجلة لمنع تكرار حوادث كهذه، وإن مقاربة أمنية جديدة سوف يتم اعتمادها، وإنها أقالت عددا من المسؤولين عن الملف الأمني، وإنها ستعدم المئات من المحكوم عليهم بالإرهاب. وعلى الرغم من أن التحليل السياسي يبدو ضئيلا أمام مشهد الدماء التي سالت، لكن محاولة للفهم لابد أن تجري، لأن عودة أسلوب التفجيرات إلى بغداد يطرح العديد من التساؤلات منها: ما هي غايات وأهداف الجهة التي تقف وراء الحادث؟ ما قيمة الاستثمار المتحقق منه للقوى الفاعلة في الساحة السياسية العراقية؟ بعد إعلان تنظيم الدولة مسؤوليته عن الحادث، بات واضحا أن رسالة تامة المعنى قد وصلت منه، تشير إلى أن التعرض الذي شهده الكثير من القواطع في المحافظات في الآونة الأخيرة، من قبل عناصره إنما هو عودة أخرى له إلى المشهد، وأن التفجير المزدوج الأخير في بغداد، هو إعلان عن دخوله العاصمة مرة أخرى. ومن يلاحظ طبيعة الهدف الذي لا يبعد عن المنطقة الخضراء، التي هي مركز الحكم والبعثات الدبلوماسية، واختياره كنقطة تنفيذ، يتأكد أن عناصر التنظيم، ترددوا على هذه المنطقة مرات كثيرة بحرية تامة، بعيدا عن أعين السلطات الأمنية، التي تتحفنا كل يوم بعشرات البيانات والتصريحات، التي تؤكد إلقاء القبض على المئات من عناصر التنظيم وقياداته. وراقبوا تحركات الأجهزة الأمنية التي تعج بها هذه المنطقة، فكان اختيارهم لها، إعلانا كبيرا عن قدرتهم على اختراق العاصمة. ويبدو واضحا أن استراتيجية التنظيم في التحول من الإطار المركزي، بعد مقتل زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي إلى اللامركزية، أعطتهم حرية الحركة والتصرف بعيدا عن التوجيهات المركزية.
يقينا لقد قدّم الحكم الحالي مختلف أنواع الدعم اللوجستي لكل القوى، التي هدفها تدمير الإنسان العراقي منذ عام 2003 وحتى اليوم. لقد خلق اقتران التدخل السياسي بالعمل الأمني خللا كبيرا في بنية ما تسمى الدولة العراقية الحالية. فلا وجود للمهنية، ولا التراكمية من مكان في هذا القطاع، إلى الحد الذي يصبح فيه صحافي غير معروف رئيسا لجهاز المخابرات، وهو رئيس الوزراء الحالي. فمن يفرض المسؤول الأمني هو القوى السياسية الماسكة بتلابيب السلطة، الحريصة أشد الحرص على أن لا يكون الجهاز الأمني للدولة قويا وقادرا على الفعل، لأن كل حزب لديه ذراع مسلح وميليشيات، وكل واحد من هذه التشكيلات لديه فصيل استخبارات يُحصّن به نفسه، ويستخدمه كذراع في الصراع المسلح مع الميليشيات الأخرى، وفي الوقت نفسه ينفذ به العمليات القذرة ضد المواطنين، من ابتزاز وتهديد وسرقات وفساد، وبذلك عندما تتوفر المعلومة الاستخباراتية لدى أي من هذه الفصائل، فإن التعامل معها يجري في سياق الاستثمار المادي والمعنوي للحزب، الذي ينتمي إليه فصيل الاستخبارات، وليس توظيفها من أجل تحصين البلاد والعباد ودرء الأخطار. وهذه الحالة ليست مقتصرة على الأجهزة الأمنية وحسب، بل إن كل الأجهزة الحكومية تعيش حالة تشظٍ في الولاءات، ولا وجود لشيء اسمه الولاء للوطن، ما قدّم خدمة كبيرة لكل من يريد الخوض في دماء العراقيين.
لقد استخدم الحكم الحالي العنف الذاتي والموضوعي، كأداة فعالة من أدوات تحقيق السياسة في العراق، وبات سلوكا سياسيا يوميا ينتهجه الجميع ضد بعضهم بعضا وضد المواطنين الأبرياء. لقد حرصوا جميعا على بناء مجدهم وبقائهم في السلطة والمحافظة على ذلك بالعنف، ظنا منهم أن العنف له دور أساسي في توليد القوة التي يُرعبون بها الآخرين، لذلك وجدنا الفصائل الاستخباراتية للأحزاب والميليشيات ترصد وتراقب وتخطف وتعتقل وتقتل بحرفية عالية، الشباب المشاركين في ثورة تشرين، بينما عجز الجهاز الأمني المركزي للحكومة من رصد ومراقبة ما يسمونها الخلايا النائمة لتنظيم الدولة. إن المعالجات التي يهرول إليها رئيس الوزراء في كل حادث أمني، هي أجراءات عقيمة وقاصرة. ما الفائدة المرجوة من إقالة هذا وذاك من المسؤولين عن الملف الأمني، إذا كان القادم أيضا محكوما بسلطة الأحزاب؟ فسيطرة الأحزاب والميليشيات على مؤسسات الحكم ودوائر الدولة، هي التي توفر ممرا آمنا لكل من يريد التفجير والقتل، لأنها ليست على قلب رجل واحد، ولأن الكل يريد تسقيط الكل والفوز بالمغانم والسلطة. وما الجدوى من تبديل المقاربة الأمنية، إذا كان الفساد ينخر في كل الأجهزة الأمنية، ويجعل من يريد شرا بالعراقيين قادرا على تمرير كل أدوات القتل ببضع دولارات، من خلال السيطرات الحكومية المقامة على بوابات المدن والمحافظات؟ وما هو المسوغ من تشكيل آلاف اللجان التحقيقية، بعد كل حادث ثم تختفي إلى الابد بدون نتائج؟ ثم كيف يستطيع القائد العام للقوات المسلحة السيطرة على الأمور الأمنية بينما يهدده فصيل مليشياوي بقطع أذنية إن اصطدم بهم؟
لقد بذلت الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا وغيرهما من الدول الأوروبية الكثير من الجهود لتطوير الأجهزة الأمنية في العراق بعد عام 2003، كما ساعد حلف الناتو في إقامة دورات تدريبية لهذه الأجهزة، لكن كل ذلك لم تظهر له نتائج إيجابية على صعيد الوضع الأمني، والسبب ببساطة، أن الولاء ليس للعراق وهذا يفقدها بوصلتها ووظيفتها الأساسية.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية