الفوضى الخلاقة والدولة المخطوفة
ابراهيم الولي*
الفوضى الخلاقة والدولة المخطوفة
مقدمة:
الفوضى الخلاقة نظرية او ظاهرة سياسية واقتصادية ليست فراغا افتراضيا كمثل الدولة أو السيادة، إنما هي إسلوب عمل وبرنامج معد بعناية ممن خطط ونفذ واعترف بأنها عملية اصلاح سياسي قصد بها إدخال الديموقراطية في بلد ما اقتضت توجيه صدمة لبعض النظم سميت بالفوضى الخلاقة Creative Chaos التي تصيب! وقد أصابت خبط عشواء (1) لتفرز كيانات سياسية واقتصادية وحتى اجتماعية، لا يدعي أحد حتى عرابوها التكهن بآثارها، فهي تقوم بالأساس على التجربة والخطأ Trial & Error وغالبا ما تترك وراءها دولا فاشلة يسهل استغلالها وقلت (3) أن الفضل في اطلاق هذه الفوضى اللااخلاقية كان للانسة كونزاليسا رايس ،وزيرة خارجية الولايات المتحدة (2) ومسؤلة الأمن القومي لفترة ممتدة من الزمن.
سأحاول استعراض ماخلفت هذه النظرية على بلدي العراق، خاصة وفيها الكثير مما ينطبق على مناطق أخرى من
العالم ؛ دولا عربية واسلامية وافريقية وامريكية لاتينية.
تصنيف الدولة:
الدولة اما ان تكون مدنية مثالية مستقرة تعمل بالحوكمة والنزاهة والشفافية وتمجد الديموقراطية والعدالة في ممارسة الحكم. وأما أن تكون فاشلة لا تحمي حدودها ولا تتناغم مع شعبها كما يقول (تشومسكي) وأما دولة رخوة Soft كما يصفها ( جونار مردال ) بأنها الدولة التي يسودها عدم الانضباط المجتمعي بسبب عجز في التشريع مراعاة للقانون و فرضه مع تمرد موظفي الدولة واصطفافهم مع اشخاص حزبيين مؤثرين بما يؤدي إلى استشراء الفساد. وهي التي تضع القوانين ولا تلتزم بتطبيقها، ومما يزيد في رخاوة هذه الدولة، كثرة الموظفين بحيث يصعب على الدولة استيعابهم، أما النسيج الاجتماعي في تلك الدولة فمنقسم على ذاته ، حتى لقد صار التمييز بين المصلحة الخاصة والعامة فيها صعبا.
وأما الدولة القلقة ِEmpirical فهي تلك التي لا تتوفر لها مستلزمات الاعتراف الدولي بسبب تقلبات رجال الحكم عليها. وأما الدولة العميقة أو الموازية فهي تلك التي تحكم من خارج شرعية الدولة، فاللاعبون في هذه الفئة هم من لا يؤمنون بالمواطنة معتمدين في الغالب على عون وسند أجنبي على حساب مواطنتهم.
ولقد فسر فلاسفة السياسة خصائص تلك الدول ومدى تأثيرها على شعوبها وعلى المجتمع البشري سلبا أو ايجابا بأكثر مما أفعل.
ـ————————————
• الناقة العمياء التي تتخبط في المكان دون تحديد وجهة فتخربه.
• فهي تكون كاشفة وليست منشئة للنظرية التي هي تراث فلاسفة غربيين جميعهم ساهم فكريا بالتبشير بها كماكيافيلي وتروستكي وستراوس وهيجل وكريستل، ومن المحدثين همنغتون وفوكوياما ، جميع هؤلاء الفلاسفة ممن اسهم في وضع لبنة في هيكل هذه النظرية بما تقوم عليه من خرق فاضح لسيادة الدول المستهدفة وبازدراء لشعوبها.
• كتابي اسقاطات السياسات الدولة على الشرق الأوسط 1916-2014
الدولة المخطوفة:
أما في بلدي العراق، فقد ترعرعت منذ 2003 وفي ظل الفوضى الخلاقة التي أفتى بها المحتل الأمريكي حينئذ بنظام حكم لدولة جديدة سميتها الدول المخطوفة أو المسروقة Kleptocracy هذه التسمية مركبة من ….Klepto. يعني سرقة وCracy اي الحكم ، فالحكم في مثل هذه الدول يفرز حكومات الفساد والسرقات.
لقد خلّف الاحتلال الأمريكي وتطبيق الفوضى الخلاقة في العراق وضعا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا مرتبكا، فنظرة شمولية من بعيد على ما يجري في العراق منذ ذلك الحين في أساليب حياة المواطنين بل وفي رجال الحكم والمجتمع المدني وتطلعات الجيل الجديد ، ترينا شعبا مضيّعا حتى لا تعرف له بوصلة، وهو العريق ذو الماضي المجيد.
رجال الدين في بلدي من جميع الملل والنحل لا يدركون- مع الاسف-، بل ولا يريدون أن يدركوا تطور الفكر البشري الذي أوصلنا إلى المريخ في الفضاء الخارجي ، وما حقق العلم من وسائل اتصال لم نكن نحلم بتحقيقها يوما. هؤلاء الرجال غفر الله لهم، ثابتون متمسكون بأهداف بعض تعاليم خرجت عن جوهر الإسلام الحنيف.فكان هؤلاء مع احترامي لهم، عقبة كأداء في وجه أي تقدم معقول يحقق للإنسان أبسط درجات الكرامة والحرية، وتمزق النسيج الإجتماعي للعراق حتى لقد أصبح الأمر طبيعياً بل وربما مرغوبا فيه، أن يجهر الإنسان بمذهبه ليتمايز به عما عداه، فكانت نزاعات طائفية كلما خمدت نارها نفخ فيها جيران لنا لتظل متقدة تلهي الناس عن ابسط مقومات حياتهم. فلطالما راقبت أخبار بلادي على التلفاز لأسمع وأرى ما يحدث ؛ ( ماعندنا شيء .... والحكومة لم تعمل لنا شيء...الغلاء مستمر...والحالة الصحية متردية ) وترى الناس سكارى وماهم بسكارى ولكن وقع الدولة المخطوفة وفوضاها الخلاقة…لشديد.
الجميع يشكو شحّ الخدمات العامة، فلا كهرباء ولا ماء...بل ولا أمن للمواطن من انفلات الدولة العميقة. هذه حالتنا العامة التي حملت العالم على السخرية منا... لماذا هذا التدهور المريع في الوضع العام في بلادي!
هل سمعتم ايها الناس باطفال بعمر الزهور يجمعون من اكداس القمامة ما يسد رمق أهلهم العجزة..!. وهل يعلم بني وطني أن الله حبا بلدهم بثروات لا مثيل لها عند من حولنا لو أحسن الناس الاستفادة منها.. وهل تعلم أن ترليون من الدولارات دخلت خزينة العراق منذ 2003 حتى الآن، تم تهريب 250 مليار دولار منها وابتلع الفساد 250 مليارا أخرى، وللعلم فان الميزانية التي بدات عام 2003 كانت بحدود 14 مليار دولار بينما تصاعد هذا الرقم حتى بلغ 2238 مليار دولار...وبالتوازي لهذه الزيادة الإنفجارية فقد صاحبها واقع اجتماعي عكسي، إذ أصبح الفقر في العراق يغطي 31 % من المواطنين ، كما بلغت نسبة البطالة 29% ، هذه نسب دونت في 2020 وهي دون ريب في ارتفاع. وبالرغم من هذه الأرقام الفلكية في ايرادات الدولة، فقد فشلت الحكومات المتعاقبة منذ 2003 حتى 2020 في توفير الكهرباء الذي انفقت عليه حوالي 80 مليار دولار وربما أكثر من ذلك ، والنتيجة أن المواطنين يشكون من ضياع الكهرباء ، وكذلك الامر مع الماء مصدر الحياة للإنسان والزرع والضرع، فقد اجتمعت عوامل كثيرة فوق الفساد ليتنمّر
علينا جيراننا
ضاربين بعرض الحائط بالقانون الدولي الإنساني الذي يضمن حقوق الدول المشتركة بالأنهار، المنبع منها او المصب ، (1) حتى لقد اصبحت نسبة المواطنين الذين لا تتوفر لهم المياه الصالحة للشرب 41% من السكان... ودع عنك الأراضي الزراعية التي بدأ معظمها يتصحر بدل أن يزدهر. والفضل في هذه المشكلة يساهم فيه الجاران ايران وتركيا.
تلك صورة سريعة لواقع بلدي العراق.
ولا يفوتني ذكر ضياع الأمن العام والخاص فهناك أحداث الاغتيال السياسي المدبرة بإتقان و هي تقع كل يوم. سببهااما مجهول... أو من فئات يقال لها أنها العنصر الثالث في الجريمة واحيانا يقال عنها الجهات المنفلتة... والجميع يعرف تماما من هم الجناة ولماذا جنوا. ولكن السكوت عن الأوضاع هو دليل فشل الدولة عندما يختل ميزان العدل فيها حتى أصبح العراق بلدا طارد بدل ان يكون جاذبٍ للاستثمار.
مع كل هذه الصورة القاتمة و المؤلمة ، فرب سائل يقول : ما الحل؟
أنا أقول لكم، إن كنتم جادين فحرروا أموالكم من المليارات المسروقة ، اين تكمن وتستثمر .. ابحثوا عنها في ملاذات عالمية لا تسأل حكوماتها عمن يودع أموالا مسروقة فتعفيه من الضريبة وتكتفي بمبلغ بسيط نسبيا كأجر لها ولإستجار مقر يكون مركزا رمزيا للشركة وللأفراد المودعين...تلك الملاذات التي تعمل خارج القانون الدولي ومقاصد الأمم المتحدة، تغمض عنها دول كبرى، رغم علمها بأن هذه العمليات تدخل في جرائم غسيل الاموال Laundering المستنكرة دوليا.. هذه الملاذات تجدونها في دويلات صغيرة وجزر متباعدة كالجزر العذراء Virgin Islands وفي بناما وأخرى مثلها في الكاريبي وفي غرب المحيط الهادي.. كما ان لكمسمبورغ و لختنشتاين ، وإلى درجة ما الاتحاد السويسري و أستراليا وحتى إيران ولبنان وسوريا و دبي ، تشترك في تشجيع إستثمارات عراقية مع علمها بأن المستثمرين فاسدون ، جميعهم استولوا عنوة على موارد الدولة التي كان المفروض بها أن تنهض بالواقع الخدمي والإجتماعي والبشري في بلدها المحتاج لها.
ويجب ان لا يفوتني عند البحث عن الاموال المسروقة اللجوء إلى حليفتنا الولايات المتحدة التي سببت فوضاها الخلاقة جل مآسي بلدنا، بأن نستعين بالخزانة الامريكية فهي مستودع الأسرار لمسار الدولار سواء البريء أو الفاسد منه ، تعرف ذلك وتصدر بين حين واخر قوائم بأسماء الفاسدين في مختلف دول العالم ، ولكن في حدود تقلبات اوجه تطبيقات الفوضى الخلاقة التي انهكت بلادي وأفلحت حتى الآن في خلق حكم يقوم على الفساد والسرقة وشرعنتها متذرعة بالمحاصصة و الفئوية .
الفوضى الخلاقة
تفضلت على العراق بإبراز أدوار اشخاص تعرف عنهم حبهم للمال والسلطات مقابل الإحساس بالمواطنة والشعور بها ... هذه فئة سماها علماء النفس بمهووسي السرقة kleptomaniacs أولئك الذين جُبلوا على السطو على المال العام بدولهم ، حينا بأستثماره في العديد من زوايا العالم والتستر على جاذبي تلك الدول، أو حينا آخر ببعثرة موارد بلادهم في خدمة سياساتهم ومصالحهم الشخصية ، يهبون زورا مالايملكون التصرف به شرعا، ولنا في ايران وسوريا ولبنان واليمن وغيرها امثلة على ذلك مما أوصل العراق إلى الإغراق في الديون لكل من هب ودب.
كل هذا والشعب منشغل بهمومه الدنيوية التي لا ترحم.. هذه الفئة من الساسة الفاسدين يبررون أفعالهم بان ثروات البلاد الطبيعية من نفط وغاز ومعادن وأموال إنما هي ملك مشاع ليس في الأصل له مالك- فهم يغرفون منه حسب قناعاتهم بالمبدأ الذي يصفه علماء النفس بإسترخاص الفعل الآثم Banality of evil فهو يعطي لافعاله مبررات باطلة ..هؤلاء الأشخاص تجمعوا شيئا فشيئا ليكونوا تكتلات سياسية سميت أحزابا، بعضها و طني و اخر ليس كذلك ، تمنطقت بالسلاح و المال مما
—————————————
• 1-أ اتفاقية الأمم المتحدة للأنهار الدولية 1997 وما خلص اليه الفقه وأحكام القضاء الدوليين من أن النهر الدولي ملكية مشتركة لدوله المتشاطئه عليه فلا يجوز لاي منها التذرع بمدأ السيادة الإقليمية عليه .
غرفت من السحت الحرام ، فباتت متنفذه ، فهي عندما تقود الحكم في دولة ما فإن تلك الدولة تكون مخطوفة او مسروقة Kleptocracy بحيث تكون ميزانيات تلك الدول و مواردها الطبيعية، مهما بلغت و فرتها ،لا تكاد تشبع نهم تلك الطبقة المريضة ، و يظل الشعب يرزح تحت و طأة العوز و الفقر . وهذا مصطلح دخل على السياسة الدولية لإنطباقه على نظم فاسدة في المحيط الدولي، وليس بلدي العراق سوى واحدا من تلك الدول . فلقد اخطتفت الدولة في رأيي – منذ طبقت الفوضى الخلاقة عليه، فكانت نتائجها ما يعاني منه شعب العراق من تخلف إجتماعي وتربوي وثقافي واقتصادي وسياسي، وللأسف فهذه ظواهر واضحة للعيان ويكفي أن نشهد مقاطع من مقابلات فئات من الشعب على وسائل الإعلام، فلا ترى أو تسمع سوى الشكوى من كل شيئ سالب، بين نائحٍ على عزيز عليه أغتيل ظلما، أو شاكٍ من فقر مدقع، أو محرومٍ من أبسط متطلبات حياته التي وهبها الله لعباده.
رجاء..
مع هذه الصورة القاتمة التي أتصورها لبلادي ، فإن العالم لا يخلو من الخيّرين الذين يحاولون إصلاح ما فسد وتبديل ما أعوجّ ، فهم كثر والأمل بهم وبالشباب ، جيل تشرين الذين يحاولون بصدورهم الفتية الوقوف بوجه عتاة السياسة في بلدهم ، وهم يطالبون بحق وعدل، أن يكون لهم وطن ، فبارك الله بهم وبالخيرين من العراقيين .
والله من وراء القصد
*سفير عراقي سابق